آية يحيى تكتب: الرغيف المحشو بـ”الحكرة”

منذ أيام قليلة فقط، انتشر خبر وفاة بائع متجول في تلك المدينة الشبح، بعد أن حرق نفسه احتجاجا على “الحكرة”..وكم كانت صورته وهو مغطى بلباس الحروق في المستشفى، وأجهزة الأنعاش تحاول إنقاذ ما تبقى من حياته. لكنه ذهب إلى دار البقاء غاضبا من المسؤولين المغاربة الذين لم يوفروا له الحد الأدنى من الكرامة. ذهب إلى دار البقاء وهو يتجرع مرارة “الحكرة”، وترك خلفه أسرة يعيلها..أسرة هي من فرضت عليه أن يغادر كل صباح يجر عربته إلى مسرح “الحكرة”..إلى الشارع العام، حيث المطاردات اليومية مع عناصر القوات المساعدة ودوريات السلطات المحلية..
ولا يكاد يوم أغادر فيه منزلي، ولا أرى أمامي مشهد دورية القوات المساعدة، وهي ترابط بالقرب من مسجد الحي، استعدادا لمطاردة الباعة المتجولين..أصحاب عربات مجرورة “يناضلون” من أجل رغيف الخبز اليومي محشو بالإهانات المتكررة وبالدوس المفتوح على الكرامة..
وماذا فعل هؤلاء حتى يستحقوا هذا العذاب اليومي الذي يتلذذ فيه عنصر القوات المساعدة باستعراض عضلاته على شبان هزمتهم ظروف الحياة وأهانتهم لقمة العيش للأب والأم والأولاد؟ أي ذنب ارتكب هؤلاء حتى يلاقوا كل يوم تمريغ كرامتهم على الأرض بوابل سباب لا ينتهي في بعض الأحيان، وبمصادرة العربة المجرورة، أحيانا أخرى، وهم الذين يطالبون بفرص شغل بديلة تقيهم الجوع والتشرد وتمنعهم من التحول إلى قطاع طرق يستلون أسلحة بيضاء ليعترضوا سبيل المارة ويسرقوا؟
تقف مشدوهة وأنت ترين زحف عناصر القوات المساعدة، بينما يفر الباعة بعرباتهم ويختفون في الأزقة البعيدة، ويبدؤون في التلصص إلى الساحة القريبة من مسجد الحي، ليعاينوا انصراف الدورية، ثم يعودون من جديد وهم يجرون العربة وعرق “الحكرة” يتصبب من جباههم، وبإحدى اليدين، يجر العربة بقوة، وبالأخرى يمسح عرق الجبين.
إلى أين سيذهب هؤلاء؟ وهم شريحة واسعة من المجتمع يوضحون بجلاء فشل السياسات العمومية في خدمة فئات عريضة من أبناء هذا المجتمع؟ إنهم الصورة البشعة للدولة التي بنت البون الشاسع بين طبقة متنفذة ومحدودة تستفيد من جزء كبير من خيرات هذا الوطن، وطبقات مسحوقة تعاني في أحياء البؤس في المدن الكبرى وفي المناطق البعيدة في العالم القروي؟ إنهم يظهرون بجلاء الهدر الذي يعانيه المجتمع، بينما الطبقة المتنفذة منشغلة بالدفاع عن المواقع وحماية الأحصنة وتوسيع النفوذ.
وفي كل مرة أقترب من عربة أحدهم، أرى لون الثياب قد تغيرت بفعل العرق..من أجل رغيف محشو بـ”الحكرة”..أشم رائحة “الحكرة” قوية ومرعبة..وأقرأ الحزن في الوجوه..أقرأ الخوف.. من الحاضر والمستقبل..أقرأ الغضب..أقرأ العجز..أقرأ الكرامة المهدورة..أقرأ النفسية المهزومة..وأسمع دون أن يتحدث: أما آن لهذه “الحكرة” أن تنتهي؟

تعبر المقالات المنشورة في منتدى الديارعن رأي أصحابها، ولا تمثل بالضرورة وجهة نظر الجريدة