طارق جبريل يكتب: وااا طلق السخون

أفتقد فضاء الحمام الشعبي كما يفتقده الكثير من المغاربة في زمن كورونا، فضاء نسجت من خلاله الكثير من العلاقات الإنسانية التي استمرت إلى يوم الناس هذا.

لم نعتد في بلاد النيل على مثل هذا الإرث الجميل، فأرض المياه هناك على مرمى حجر من خط الاستواء، حيث تتعدى درجات الحرارة الـ40 درجة في مجمل فصول العام، ويصبح الوطن ككل أشبه بحمام مغربي يجعل الأجساد تنز وتتخلص من العرق.

المغاربة حين يودون كسر إحساسك بالغربة ويسعون إلى اندماجك في محيطهم يأخذونك إلى الحمام، إنه كرم القرب على كل حال، حين تطأ قدماك لأول مرة فضاء الحمام المغربي، الذي يتراءى لك كتجويف حوت ضخم حظي بمؤونة شهر من البشر ومواد التنظيف، ستندهش لسعي كل تلك الأجساد للنظافة لتستمتع بالحياة، يبتهج جسدك باستقبال سخونة «الفرناتشي» ورقة المياه الدافئة تحت قدميك المنهكة من الركض في أوردة الحياة طيلة أسبوع كامل.

لعوالم ثقافة الحمام حميمية لا تخطئها العين، هذا أب يسعى لنظافة أبنائه و«يفركهم» واحدا تلو الآخر وهو يمازحهم وضحكهم الطفولي يملأ المكان، وذاك ابن بار يدلك جسد والده المسن ويسعى لـ«تسخين» جسده و«تكسيله» وتشنف أذنيه: «الله يرضي عليك آآآولدي»، وفي ذلك الركن شابان يتبادلان «كوبليهات» الأندلسيات بصوت شجي يقلب تلال الرمال الرابضة في الروح:

يا شمس العشيا أمهل لا تغب بالله رفقا

هيجت ما بيا حتى زدتني في القلب شوقا

ترفق عليا إني في المليح قد زدت عشقا

في الوادي المذهب ووجه المليح مثل الثريا

والساقي مؤدب يسقي بالأواني البندقيا

صففوا القطعا وزيدوا نغنم هذا العشيا

ودون تنسيق مسبق يتحول الحمام إلى جوق أندلسي من جميع الأعمار فتحفظ «الصطولة» إيقاع القوم وتتحول «المناشف» إلى أدوات للرقص والتعبير عن الحبور والفرح، وسط تبادل “الصابون البلدي” و”الشابموان” و”واااااا طلق السخون”.

أمام كل هذه البهجة تنزوي إلى ركن قصي أيها البدوي القادم من منحنى النيل وتستمتع بكل هذا الألق لتنفلت الذكريات من رأسك وتتوه في صحراوات الذات وتتماوج في باطنك الأسئلة عن وطن هناك يعيش مخاضات الخروج من عنق الزجاجة، وطن تخاف عليه أن ينزلق إلى حواف الذاكرة بعد أن تاه في الجغرافيا.

الحمام المغربي واحد من أجمل الفضاءات والثقافات الشعبية الموروثة جعلت منه الجائحة صنما تحتله الريح ويندلق بين ثناياه الصمت، كما قال صديقنا «شعيبة»: من أجل هذه المتعة مستعد لـ”الحريك” إلى أي مدينة أخرى فتحت أبواب حماماتها للجميع.

إنا لله.. لا أدري أين طوحت الأيام بـ”سي ابراهيم كسال حمام حومتنا”.. ولا أدري كيف يتدبر الذين لا يتوفرون على حمامات في منازلهم أمرهم..

نرجو لنا لقاء قريبا في حماماتنا ورفع الله عنا البلاء.

(الأحداث المغربية)

تعبر المقالات المنشورة في منتدى الديارعن رأي أصحابها، ولا تمثل بالضرورة وجهة نظر الجريدة