من ذاكرة الحدود المغربية الجزائرية

كانت سياسة ضم فرنسا لأراضي مغربية ودمجها في تراب مستعمرة الجزائر نِتاج قناعة بقاءها في هذه الأخيرة الى الأبد، بخلاف رؤيتها ووجودها في المغرب الذي استغلت كل ما كان يعيشه من ظروف صعبة على أكثر من صعيد لبلوغ مطامعها الاستراتيجية في المنطقة. وقد رفض المغرب بمجرد استقلاله عام ألف وتسعمائة وستة وخمسين الاعتراف بما كان له من اتفاقيات سابقة مع فرنسا ما عدا اتفاقية لالة مغنية عام ألف وثمانمائة وخمسة وأربعين. وعليه، لإعادة النظر في قضية الحدود بينهما تشكلت لجنة مشتركة فرنسية مغربية ارتأى نظر المغرب الانسحاب منها مفضلاً اعترافه بحكومة مؤقتة جزائرية، وعياً منه بما سيكون لها من صلاحية تباحث في هذا الشأن. تطورات سياسية وغيرها انتهت الى اتفاقية سرية مغربية جزائرية عام ألف وتسعمائة وواحد وستين تخص معالجة مسألة الحدود بين البلدين، مقابل دعم المغرب للثورة الجزائرية.

ولا شك أن قضية الحدود المغربية الجزائرية تعد واحدة من أعقد القضايا السياسية العالقة بين البلدين، ذلك أنها بقدر ما تعود في مسارها الى أواسط خمسينات القرن الماضي حيث استقلال المغرب، بقدر ما كانت بأثر معبر في تعطيل جملة رهانات وأوراش تهم المنطقة ككل، بل لا تزال قضية الحدود بجدل كبير بين باحثين وسياسيين لِما تغديه وتحدثه من توتر مستمر يهم أمن المنطقة واستقرارها. وكانت الجزائر قد اختارت الهروب الى الأمام في تعاملها مع هذا الملف بحديثها عن أهمية الحفاظ على ما خلفه الاستعمار من إرث ترابي، ما ارتأته مسلكاً ممكناً مع بحث عن موقع للقضية وتصفيتها عبر انصهار في رهان اتحاد مغرب عربي.

وفي علاقة بقضية الحدود المغربية الجزائرية بعد احتلال الجزائر، من المفيد الإشارة الى أنه بعد دخول الجنرال “بيجو” الى وهران ودعوته “ابن الكًناوي” حاكم وجدة للقاء من أجل الحديث عما كانت عليه المنطقة من تطورات سياسية وعسكرية، ورغم ما حصل من هجوم مفاجئ لفرقة من جيش “ابن الكًناوي” على الطرف الفرنسي أثناء اللقاء، ما انذهل له “بيجو” واعتبره خيانة لدرجة عزمه احتلال وجدة لولا اعتذار ابن الكًناوي”. كان جواب “بيجو” كالتالي:” إن جل المقصود الأهم (في اشارة الى اللقاء) هو أمر الأمير عبد القادر وتحديد الحدود التي كانت بينكم وبين حكومة الاتراك الجزائرية وليس مقصودنا ما يخص بكم من البلاد، واننا نلح عليكم أن لا تقبلوا اقامة عبد القادر في بلادكم وأن لا تساعدوه علينا فإن قبولكم لإقامته في أرضكم نعده حرباً لنا وعداوة لا صداقة”.

ومعلوم أن حدود المغرب مع أتراك الجزائر كانت تشمل بشار وتوات وعين صالح والساورة، باعتبارها تراباً ومناطق مغربية كان أعيانها يحملون ظهائر وطوابع تولية من ملوك علويين مثل الحسن الأول وعبد العزيز…، وكان قد تم الاتفاق من خلال الشرط الأول من تحديد الحدود بين المغرب وفرنسا بالجزائر عام ألف وثمانمائة وأربعة وأربعين، على ابقاءها كما كانت من قبل بين ملوك الترك وملوك المغرب السابقين دون اعتداء ولا بناء ولا تمييز بحجارة، بل تبقى كما كانت قبل استيلاء الفرنسيين على الجزائر. وكان “با احماد” الوصي على العرش بعد وفاة السلطان الحسن الأول لما بلغ خبر احتلال الفرنسيين لبلاد توات، قد بعث العربي المنيعي لطنجة ليحتج أمام القوى الكبرى على ما حصل لكنه لم يحصل سوى على تعاطفها. وبعد وفاة “با احماد” (أحمد بن موسى) وبسبب غياب ما هو كاف من وسائل لدى السلطان عبد العزيز للقيام بما ينبغي صوب تراب البلاد، اختار التخلي الى حين متجهاً للعمل على وضع الحدود التي تترك له أكثر ما يمكن من منطقة الجنوب الشرقي، ومن هنا ما حصل مع بعثة المغرب الى باريس برئاسة عبد الكريم بن سليمان عام ألف وتسعمائة وواحد.

وكان جزء هام من التراب المغربي لما وقع مولاي عبد الحفيظ على عقد الحماية عام ألف وتسعمائة واثنا عشرة تحت المراقبة الفعلية للجيش الفرنسي، بحيث على مدى ثلاثة عقود كانت فرنسا تتسلل تدريجياً صوب الأراضي المغربية بدعوى تعاونها احياناً وتوسيع الحدود الجزائرية احيانا أخرى. وغير خاف على الباحثين المؤرخين أن التدخلات الفرنسية الاستعمارية قبل فرض الحماية على البلاد طبعتها أربع خطوات أساسية عسكرية وسياسية، أولاً احتلال الدار البيضاء في يوليوز ألف وتسعمائة وسبعة ثم احتلال السواحل المغربية (الشاوية) خلال السنتين المواليتين. وخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر حصلت اصطدامات بين قبائل مغربية وفرق عسكرية فرنسية على طول الحدود الشمالية الشرقية انتهت باحتلال وجدة خلال نفس السنة، أما واحات الصحراء الوسطى (كورارة وتوات وتدكلت) فقد تم الحاقها بالجزائر ما بين ألف وتسعمائة وألف وتسعمائة وواحد، حيث انطلق الفرنسيون منها لغزو بلاد الطوارق والقبائل الصحراوية الأخرى، ومن تمة ما حصل من دخول متقطع للجنوب الشرقي المغربي باتجاه وادي زيز وتافيلالت.

وكانت اتفاقية لالة مغنية قد همت تعيين الحدود على أساس احترام الحدود التي كانت بين المغرب وتركيا، وهو ما نص عليه الفصل الخامس من اتفاقية طنجة في مارس ألف وتسعمائة وخمسة وأربعين. وقد قسمت الحدود الى ثلاثة أقسام الأول حدد بتدقيق بين من مصب وادي كيس في البحر المتوسط الى ثنية الساسي على بعد مائة وخمسين كلم الى الجنوب، أما الثاني فهو الذي امتد من ثنية الساسي الى فجيج وأما الثالث فقد هم جنوب بلاد فجيج وقد أصر المفاوضون على أن تبقى دون تعين حدود على أساس أنها صحراء ومرعى لرعايا الدولتين. وقد احتج المغرب على ما حصل معتبراً اياها مؤامرة فرنسية كما احتج على عدم الابقاء على الحدود كما كانت قائمة بناء على الاتفاقية المغربية التركية عام ألف وخمسمائة واثنين وخمسين(واد تافنا).

ولعل الحديث عن الحدود المغربية الجزائرية تقتضي الرجوع لفترات متأخرة من تاريخ المغرب أي منذ القرن السادس عشر، على أساس ما كان من حدود مفترضة إثر ما حصل من تصادم بين القوات التركية والسلطة السعدية، وهي الحدود الموضوعة منذ القرن السابع عشر والتي بموجبها تم تحديد مناطق نفود السلطة تركية ومناطق نفود سلطة مغربية باعتماد وادي تافنا حداً سياسيا بين المغرب الأقصى والمغرب الأوسط. وللاشارة فإن اتفاقية الحدود عام ألف وثمانمائة وخمسة وأربعين لم تشر مطلقاً لمنطقة توات، نظراً لمغربيتها منذ قرون أولاً وبحكم كون النفود الفرنسي لم يكن قد اقترب منها حتى يمكن اثارة قضيتها مع الفرنسيين ثانياً. علماً أن حدود المغرب في الصحراء الشرقية والجنوبية الشرقية كانت تتصل بتونس، كما أن الاتراك لم يكن لهم نفود في الصحراء سواء الوسطى أو الجنوبية، بل كان نفودهم يقتصر على منطقة التل وعلى المدن خاصة لدرجة أنهم لم يكونوا يسيطرون سوى على سدس مساحة الجزائر الحالية. وعليه، لم يكن من المهم اثارة قضية الحدود ومناطق توات وغيرها في اتفاقية “مغنية” لأن مغربيتها أمر لا نقاش فيه.

وعن الاطماع الاستعمارية الفرنسية في التراب المغربي أواخر القرن التاسع عشر انطلاقا من الجزائر، ورد في “التنبيه المعرب” للحسن بن الطيب بن اليمني مطلع القرن الماضي ما يفيد حول تطور الوضع فقال:” وبطُل العمل الذي كانت عليه المملكة في الملاقات مع سفراء الروم، ومَلَك الفرنصيص بلاد تينبكتو وبلاد قطر توات ومَلَك الصحراء كلها الى أن جاور تافيلالت. وقامت القيامة في الدنيا لأجل ذلك وكثر الكلام واغتاضت القلوب وانحل النظام وانهدمت رسوم المملكة من خلف ومن أمام ولا حول ولا قوة الا بالله، وانطلقت الألسن بثلب الدولة وتنقيصها ونسبة (كذا) القصور اليها”.

وعلى اثر ما حصل له من تقطيع ترابي ممنهج منذ نهاية القرن التاسع عشر وحرصاً منه على وحدة مجاله، ظل المغرب متشبتاً دوماً في بياناته بما في ذلك أثناء المفاوضات الجزائرية الفرنسية (ايفيان)، على أن الصحراء الشرقية المغربية لا توجد ضمن السيادة الجزائرية لدرجة أنه خلال التفجيرات النووية الفرنسية في “رقان” أكد أن مكان التفجيرات هو أرض مغربية، بحيث رفع في هذا الشأن مذكرة الى الجامعة العربية من أجل التدخل لدعم مطالبه الترابية التاريخية. ولم يكن قبول فرنسا التفاوض حول قضية الحدود مع المغرب والحالة هذه، سوى مناورة أجاد لعبها “ديكًول” لابعاد المغرب عن كل تضامن مع الثورة الجزائرية وحتى يدخل في صراع مع جبهة التحرير الوطني التي كانت ترى أن تسوية الملف لا يمكن أن يتم الا بعد تحقيق الجزائر لاستقلالها. ودليل مناورات فرنسا لإبعاد ما حصل من تقارب في مؤتمر طنجة بين تونس والمغرب من أجل مساعدة الثورة التحريرية الجزائرية، ما جاء في مذكرات “ديكًول” :” إن تنمية تنقيبنا عن البترول في الصحراء واستثمارنا له، سيصبح غداً بالنسبة الينا نحن معشر الفرنسيين عنصراً رئيسيا للتعاون مع الجزائريين، فلماذا نقضي مسبقاً عليه بتسليمنا الى الآخرين أرضاً تعود في وضعها الحالي الى الجزائر.” مضيفاً أنه اذا استجابت فرنسا لمطالب تونس في حدودها مع الجزائر فإنها ستحرك مطامع المغرب في كولمب بشار وتندوف.

يذكر أنه أمام مناورات فرنسا وضغوطاتها لتجنب مفاوضات حقيقية مع الحكومة الجزائرية المؤقتة بدعوى عدم أهليتها لتمثيل الشعب الجزائري، كان موقف المغرب هو دعم الجزائر والوقوف الى جنبها مع شجب كل ما تقوم به السلطات الفرنسية. بل وبمناسبة الدورة الخامسة عشرة لمنظمة الأمم المتحدة في اكتوبر ألف وتسعمائة وستين، اتصل السلطان محمد الخامس بعدد من رؤساء الدول لنصرة القضية الجزائرية والتصويت لها، نفس الشيء هو ما حصل مع عدد من رؤساء الدول الغربية ومنها الرئيس الأمريكي ازنهاور. بل وحرصا على هذا الملف تم تكليف ولي العهد الحسن الثاني شخصياً لابراز موقف المغرب الداعم لاستقلال الجزائر.

وفي اطار المفاوضات المغربية الجزائرية حول الحدود والصحراء الشرقية المغربية خلال يوليوز ألف وتسعمائة وواحد وستين، حصل اتفاق سري بين الطرفان بقوة مسودة في الموضوع أعلن عنها المغرب عام ألف وتسعمائة وثلاثة وستين وتخص اعترافا رسميا جزائريا بحق المغرب في استرجاع أقاليمه وهو ما ترتب عنه نزاع مسلح عرف ب”حرب الرمال”. وكانت هذه الاتفاقية السرية التي أمضتها الحكومة الجزائرية المؤقتة بقدر ما طمأنت الطرف المغربي، بقدر ما تضمنت اشارات تخص تفهمها لمشكلة الحدود بين البلدين وأهمية ايجاد حل لها بعد الاستقلال:” المشكل الجزائري الناشئ عن تخطيط الحدود المفروض تعسفاً ما بين القطرين سيجد حلا له في المفاوضات بين الحكومة المغربية وحكومة الجزائر، لدراسة المشكل وحله في اطار روح الاخاء.”

وأمام إلحاح المغرب على ضرورة حل قضية الحدود اضطرت الحكومة الجزائرية المؤقتة في بداية عام ألف وتسعمائة وواحد وستين للتجاوب مع المطلب المغربي، فتشكلت لجنة مشتركة عن البلدين لدراسة المشكل الذي اقحمت فيه الجزائر دراسة مشروع وحدة المغرب العربي، وذلك من أجل تمييع قضية الحدود ووضع المغرب أمام الأمر الواقع. هكذا بسبب مشكل الحدود كانت أولى المواجهات العسكرية المغربية الجزائرية بعد استقلال الجزائر حول “تندوف”، لمَّا قمعت الجزائر مظاهرات طالبت بانضمام الاقليم للمغرب، وهكذا بدأ المغرب يطالب بالوفاء للاتفاقيات رافضاً كل حدود موروثة عن فترة الاستعمار، عندما انضم الى منظمة الوحدة الافريقية عام ألف وتسعمائة وثلاثة وستين، وهو ما ترتب عنه نزاع حدود بين البلدين الجارين عرف ب”حرب الرمال”. وكان المغرب قبل هذه الواقعة قد بعث بوفدين متلاحقين الى الجزائر لتسوية الملف سلمياً بناء على ما هو سابق بينهما من اتفاق في هذا الشأن، بل تلت ذلك زيارة رسمية للملك الحسن الثاني خلال مارس ألف وتسعمائة وثلاثة وستين، أثيرت فيها قضية الحدود التي فضل الرئيس الجزائري “بن بلة” تأجيلها الى ما بعد انتهاء انتخابات رئاسة الجمهورية وسريان الدستور الجزائري.

تبقى قضية الحدود المغربية الجزائرية ومنها صحراء المغرب الشرقية التي عبثت بترابها آلة فرنسا زمن الاستعمار، واحدة من أعقد قضايا البلدين السياسية والتي كانت وراء تعطيل جملة أوراش ورهانات ذات طبيعة استراتيجية اقليمية. بل يدخل النزاع المغربي الجزائري حول مسألة الحدود منذ استقلال المغرب ضمن قضايا النزاع العربية الكبرى العالقة، لِما هناك من تدخلات وأطراف ذات مصالح سياسية واقتصادية. وإذا كان هذا الاشكال نتاج إرث استعماري فإن وعي المغرب بأهمية حله ضمن ما هو اخاء يجمع بين بلدين شقيقين جارين، جعله يبرم اتفاقاً سريا مع حكومة الجزائر المؤقتة برئاسة فرحات عباس عام ألف وتسعمائة وواحد وستين. الا أن ما حصل من عدم التزام جزائري بعد استقلال الجزائر ومن تجاوز تبين جلياً فيما تفاقم من ضغط على أهل تندوف لمنعهم من انضمامهم الى المغرب عام ألف وتسعمائة واثنين وستين، بقدر ما اضطر معه المغرب لنشر بنود ما حصل من شأن سري حول قضية حدود كان قد تم الاتفاق على حلها في اطار ما يجمع بلدين شقيقين جارين من روح اخاء، بقدر ما زاد من تعقيد المسألة وتعليقها ورهن المنطقة وتطلعات شعوبها ومن تمة تأثيرها على أكثر من صعيد الى حين.

تعبر المقالات المنشورة في منتدى الديارعن رأي أصحابها، ولا تمثل بالضرورة وجهة نظر الجريدة