اليوبي.. “الفاسي” الذي ينتظره الجميع في زمن كورونا

قبل اقتراب فيروس كورونا من الأبواب، لم يكن المغاربة يسمعون بشخص اسمه محمد اليوبي، ولا حتى بمديرية تسمى مديرية الأوبئة.. كانت هناك وزارة الصحة فحسب. لكن وكما واصل الفيروس زحفه من الصين نحو مناطق أخرى حتى حط في المغرب، بدأ المغاربة يوما عن يوم يألفون وجها بسيط الملامح وبلكنة فاسية وابتسامة خجولة، له القدرة على طيّها سريعا والعودة إلى الجد، حتى أضحى نجما تواصليا بامتياز ينتظره المغاربة كل يوم ليخبرهم عن مستجدات الحالة الوبائية لكورونا. 

في مدينة فاس رأى النور وتابع دراسته الابتدائية والثانوية؛ ومن أسرة عريقة في الملحون يتحدر، حيث والده الحاج عبد المالك اليوبي من ألمع شعراء الملحون الأحياء، وعنه ورث حب هذا النوع من الفن الذي كان هوايته الأولى وهو يافع يغني الملحون في سلكي الإعدادي والثانوي، قبل أن يعصف بهذه الهواية تخصصه في الطب ثم في الوبائيات لاحقا.

ربما من حرفة والده أخذ البساطة والسلاسة في الخطاب؛ حيث ظهر محمد اليوبي في طلات إعلامية متتابعة تغلفه البساطة ابتداء من لباسه العادي الذي لم يكن في الغالب بذلة رسمية ولا ربطة عنق كما اعتاد الجميع رؤيته في اللقاءات الرسمية.. لباس عادي وحديث صريح بخطاب العلم لا السياسة، وبأسلوب تفهمه مختلف الشرائح، ولغة وسطى بين الدارجة والفصحى.

إنه السهل الممتنع الذي لم يألفه المغاربة في مسؤولين تنطلق ألسنتهم بطلاقة في لغة موليير وتتلعثم عند الحديث بالعربية، أو في مسؤولين آخرين لا يرفعون أعينهم عن الورقة التي يقرؤونها. خرجات ليست بالكثيرة ظهر فيها اليوبي متحدثا بأريحية وثقة في النفس، وكأن الموضوع ليس وباءً عالميا وليس فيروسا ينتشر بصمت ويجعل الجميع يتخيل أبشع السيناريوهات في بلد قدراته الصحية متواضعة.

الموضوع وباء والمغاربة عيونهم مشدودة نحو الشاشة كل يوم لمعرفة جميع التفاصيل، مما جعل اليوبي نجما ينتظره الصحافيون والمشاهدون كل يوم منذ بدء هذا المسلسل الذي لا يريدونه أن يطول على كل حال. بسرعة أخذ هذا النجم لنفسه مكانا مستحقا بعد أن استطاع أن يحدث تواصلا ناجحا في بداية الأزمة، حيث كان الصوت النافذ الذي أحاط المغاربة بما تجب معرفته عن كورونا وهو يشرح طبيعة الوباء بموضوعية ويبْسُط توقعاته والإجراءات الواجب اتباعها، دون تهويل ولا تهوين، واعدا المغاربة بأن بلدهم لن يشهد تفشيا للوباء بنفس الطريقة التي عرفتها دول مماثلة حيث “الوباء فتاك والشوارع مقفرة والمدن محاصرة”.

يعرف اليوبي جيدا أن موقعه كان حساسا واحتمالية أن تتم قراءةُ طريقةِ حديثه على أنها استصغار للخطر واستهتار به واردة، خاصة وأن المغاربة كانوا خائفين من وباء يطرق أبوابهم، لكنه مع ذلك على وعي بأن الأعصاب الباردة هي الخاصية التي ينبغي أن يتمتع بها مدبر الأزمات: “الأمر أشبه بطبيب المستعجلات، لا ينبغي أن يسمح للخوف بالتمكن منه، بل يجب أن يحافظ على هدوئه؛ فالأخصائي في الوبائيات عندما يكون في تدبير الأزمة لا ينبغي أن يفقد أعصابه.. يجب أن تظل بأعصاب باردة كي تتخذ قراراتك، هذا ناهيك عن أن مسألة دخول الفيروس كانت منتظرة بالنسبة إلينا، فلا يجب أن تتفاجأ”، يقول اليوبي.

قال اليوبي ما لديه وظهر على شاشات التلفزة الرسمية ومنصة الوزارة وعدد من المنابر الإعلامية وأصبح أيقونة للخطاب الرسمي حول كورونا، حتى تعوَّد الجميع انتظار وقت الندوة الصحافية ليكشف مستجدات الحالة الوبائية. لكن السيناريو تم تغييره فجأة لتظهر وجوه أخرى من أطر الوزارة، تتبدل كل مرة لتقرأ بلاغا مقتضبا لا ترفع عينيها عن الورقة التي كتب عليها، ثم تغادر.

في منطقة بني ملال، خطا اليوبي أولى خطواته في المهنة كطبيب رئيسي بعدد من المراكز القروية، بضواحي الفقيه بنصالح ثم بضواحي بني ملال ثم بمدينة بني ملال ذاتها، بعد أن كان تخرجَ من كلية الطب والصيدلة بالدار البيضاء سنة 1990.

لكن انعطافته من الطب نحو علم الأوبئة جاءت بعد تقلده مهمة رئيس المرصد الجهوي للترقب الوبائي بجهة تادلة أزيلال لسنتين، وخلالها كان يكمل دراسته في مجال الوبائيات وعلم الصحة العامة.

“حينها، اكتشفت نوعية هذا العمل ومجال الترصد الوبائي والتحري حول الأمراض التي تقتضي التحري والتبليغ والتتبع؛ فبسرعة جذبني هذا المجال إليه، ووجدت فيه ذاتي”، يقول.

كان توجهه نحو هذا التخصص النادر حينها سببا كافيا لدعوته من قبل مدير مديرية الأوبئة بالرباط للالتحاق بالمديرية، حيث اشتغل كطبيب إطار في مصلحة الترصد الوبائي لحوالي سنتين قبل أن يصير رئيس المصلحة ذاتها لحين من الزمن.

“تخصص علم الأوبئة الآن بدأ يكثر في المغرب مقارنة بالوقت الذي بدأت فيه أنا، إذ كان قليلا.. كان أصحاب التكوينات في الوبائيات معدودين على أصابع اليد. اليوم ومنذ أن أُحدِثت في كلية الطب شعبةُ التخصص في الصحة العامة، وأُحدِثت من بعدُ شعبة جديدة هي التكوين في الوبائيات بالمدرسة الوطنية للصحة العمومية، أصبح عندنا أطر، سواء ممرضون أو أطباء أو مهندسون وصيادلة مختصون في الوبائيات والصحة العامة”.

كان اليوبي من المؤسسين الذين سهروا على أن تكون هناك شعبة بالمدرسة الوطنية للصحة العمومية، والتي أحدثت بشراكة مع مركز محاربة الأمراض بالولايات المتحدة الأمريكية، كما أنه كان من أوائل الذين تخرجوا منها في الوقت ذاته. “كان من الضروري أن يكون لدي إشهاد بأنني تكونت أيضا في الشعبة، لذلك تسجلت في أول دفعة للدراسة، وكنت من أوائل خريجي هذه الشعبة في المدرسة الوطنية للصحة العمومية”.

من هنا كانت بدايته في ترسيخ عمله كإطار مهم داخل مديرية الأوبئة، حيث سيتقلد فيها مناصب أخرى، مثل تكليفه بمهمة مدير بالنيابة للمعهد الوطني للصحة، ثم رئيس لقسم الأمراض السارية بالمديرية، ليصير أخيرا، في شتنبر 2018، مدير مديرية علم الأوبئة.

وعن مهمته في الوبائيات، يرى أنه “عندما تكون طبيبا، فإنك تجد سهولة في الاندماج في تخصص كهذا، وفهم الحالات الوبائية العالمية، بحكم أن الطبيب يفهم بسرعة نوع المرض المسبب لوباء من الأوبئة وما هي الإجراءات الوقائية والمناعة التي تتكون عند الأشخاص، إلى آخره”. لكن هذا، في تقديره، لا يعني أن الأشخاص الآخرين من غير الأطباء لا يستطيعون مزاولته.

ما غيَّرته أزمة كورونا في اليوبي أنه لم يعد يجد وقتا لعمل أي شيء آخر خارج تتبع الوضعية الوبائية والحفاظ على استمرارية العمل الطبيعي للمديرية. مرارا، ظلت الاجتماعات قائمة في الوزارة حتى منتصف الليل، وفي مرات أخرى لم يُغمضِ النومُ لليوبي جفنا، وربما أفراد طاقمه، حتى مطلع الفجر. “تصل البيت متأخرا فتأكل وتصلي ثم تبدأ في الاشتغال من جديد، هناك معطيات يجب تحيينها وهناك مراسلات وإيميلات لا بد أن ترد عليها، لأن هناك الأقاليم والجهات التي تستفسر وهناك ارتباطات مع منظمة الصحة العالمية والتزامات مع الكاتب العام والوزير ومهام أخرى للمديرية، يجب أن تستمر ولا تتوقف، لأن المديرية ليست فيها كورونا فقط”.

لا ينطفئ هاتف اليوبي صباحا ولا ليلا، يرن في كل وقت، فقد تصل نتائج المختبر بالليل ويكون عليه تبليغها إلى الأقاليم والجهات كي تبدأ التدابير، مما يجعل الهاتف مفتوحا طوال الوقت.

“الاتصالات لا تنتهي، وربما حتى هاتفي أحس بهذا التغير، كنت أشحن الهاتف مرة واحدة في الليل، لكن اليوم بدأت أشحنه أكثر من مرة في اليوم وعلي أن أحمل معي جهاز شحن دائما”.

هل يحدث هذا لأن الوباء باغت المغاربة، بما فيهم مديرية اليوبي؟ نسأله فيرد على السؤال قائلا: “بالنسبة إلى واحد متخصص في الوبائيات، فمسألة وصول الوباء كانت متوقعة. وعلى أي حال، إذا تتبعت التصريحات ستجدني كنت أقول إن الفيروس داخل لا محالة”.

يشدد اليوبي على أن تدبير المرحلة من حيث مهام المديرية لا يقوم على شخص واحد، بل الفضل يعود إلى فريق المديرية كاملا ومختلف المتدخلين الذين يشتغلون بتعاون منقطع النظير، وهو ما يجعل الكل قادرا على الاستمرار في العمل والتتبع لمحاصرة تفشي الوباء.

“الحمد لله، اكتشفنا جوا من العمل جديدا رغم التعب والحدة والضغط. هنا جو جميل جدا وأخوة وتعاون من طرف نساء ورجال المديرية وتضحية لا مشروطة. الكل أصر على أن يكون منخرطا في التعبئة والعمل ضمن هذه الأزمة، ولو لم يكن هذا الجو ربما كان سيصعب علينا أن نظل واقفين لحمل هذا العبء الذي هو شرف وليس شيئا كثيرا في حق المغاربة”.

يحافظ اليوبي على أمله الأول في أن الوباء لن يتفشى بطريقة فظيعة كما حدث في دول أخرى، وذلك نظرا إلى الإجراءات السريعة التي قامت بها الدولة مدعومة من أعلى سلطة في البلاد، وبتنسيق مع المصالح، بما فيها العسكرية والمدنية، وتنسيق الوزارات في ما بينها؛ مُطمئنا أيضا إلى التزام المغاربة بالبقاء في البيت والذي بلغ نسبة محترمة على حد قوله، لكنه يعول على استمرار المغاربة في الإجراءت والالتزام بها حتى لا تأخذ المرحلة الثالثة من الوباء البُعد الذي أخذته في دول أخرى.

“إذا أخذنا على عاتقنا كمغاربة أن نتحدى ونربح دون سقوط عدد كبير من الحالات، فمازال باستطاعتنا ذلك. علينا، بالإضافة إلى ذلك، أن نخرج من هذه الأزمة بعادات جديدة والالتزام بإجراءات لم نكن نعطيها أهميتها في السابق للوقاية من الأمراض، خاصة تلك التي تنتقل عبر الجهاز التنفسي.. يجب أن تكون هذه التجربة فرصة لتغيير هذه العادات والسلوكات. حينها سنكون قد خرجنا أبطالا من هذه الأزمة”. 

جريدة المساء عدد 1441 بتاريخ 31 مارس 2010 – بتصرف