نور الدين شكردة في يوميات الجائحة.. “التامعلميت”
عند باب المركب الاستشفائي اصطفت سيارات “لوكان” بمختلف ألألوان والأشكال، بجانبها وقف ثلاثة أساتذة بكمامات مدعومة، ولباس رياضي يظهر أن اثنين منهما استعانا بمحل خردة لاقتنائه، وصندل يحمل علامة تجارية مقلدة، يستأثر أحد زملاء “جواد” بالحديث:
– “سيجتاز هذه المحنة سالما، أعرفه جيدا، أمضيت معه سنة تعييننا الأولى على قمة جبل “سيروا”، كنا نلمس الغيوم ونتبول على السحاب، لم يكن يعف لحم القنافذ والضباب، مشينا على أرجلنا فوق الصخر والثلج لتسع ساعات طوال من التيه والجوع والألم، كان محاربا، لم تعزه الحكمة والحيلة في تدبير نوائب التعيين الأول، كان يصنع المحال من اللا محال… كشافة أمريكيون وصلوا لفرعيتنا وعندما رأوا عجائب صنائعه، اصطفوا ومنحوه تحية كشفية كونية، كان يصنع اللحم من اللا لحم… تعلم الأمازيغية في سبعة أيام وقفز بالدوار عقدا من التنوير إلى الأمام، كان يصنع الخمر من اللا خمر، النهد من اللا نهد…”.
يبادره زميل ثان “كفى مزايدة رجاء، مصائب التعيين الأول أمضيناها جميعا في نفس الظروف والمعاناة، الحزقة كانت تستتبع اللا حزقة، والبؤس كان يعلو على اللا بؤس، لا داعي لتأليهه فقط لأنه التقط كورونا المستجد، الأمر متوقف الآن على مناعته وعلى مدى نجاعة بروتوكول علاجه بالكلوروكين، فقط …”.
يتهجى زميل ثالث على مسامعهم بتأن؛ ونية مبيتة في رصد هنات بلاغ الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين في شأن التضامن مع زميلهم، يتصدى الأساتذة المحكمين لانتقاد محتواه فقرة فقرة، سطرا سطرا، كلمة كلمة دون إهمال ثغراته القانونية وعيب الشكل وخلل المضمون وعبثية غياب وترتيب أدوات الترقيم..اللا ترقيم.
-“إلى جانب أخطاء الهمزة المتطرفة، يبدو أن مدبج البلاغ لا يعلم أن النعت يجب أن يتبع المنعوت، جهله بالتوابع وتعدي الأفعال لنصب ثلاثة مفاعيل مركب”.
– “كاتب البلاغ يبني المعرب ويعرب المبني، ولا يدري أن العلم المؤنث والأعجمي والمركب تركيبا مزجيا، يمنع من الصرف”.
– “واضح انه ليس هو نفسه كاتب بلاغ التكذيب السابق”.
– “وأنت يا من تنتقد، هل تعرف معنى البناء والإعراب، والإعلال والإبدال؟”.
-“أعطني عشرين اسم فعل أمر، اعربها واشرح معناها، واعرب بعدها هذه الجملة، لولا سألتمونيها ما قطبجدتكم، وساجيبك عن سؤالك”.
-“حتى تعطيني نتا الأوزان ديال التصغير ودلالاتها وشروطها وما لا يصغر، راه ماشي غير أجي وصغر أأخيي عدينان المعيلم الرجيل المغيربي المييقن المويتة جراء الكويفيد التسيعة عشر”.
ينتهي بهم الجدل النحوي هنا، ينتقل سائقو داسيا للخوض في الشأن العام وأوجاع القطاع، وجديد الجائحة…
ثقافة النقد والشك والجدل حكمت السلوك، ثقافة المنشأ والحي والدور، ثقاقة الجرائد والجامعة ومركز التكوين شكلت المفاهيم والقناعات، ينبري أحدهم للتصدي لسلوك رجل الأمن الخاص وحارس موقف السيارات، ويمارس عن غير وعي وصاية على السلوك والتصرف وطرق تدبير المواقف، وألأسباب النفسية والاجتماعية لخرق حالة الطوارئ، يعلو صوته على كل الأصوات، فيصبح حارسا للقيم وللغة وللمجتمع، يتقمص دور الجلاد من حيث لا يدري، ينبذ قرارات السلطة الوصية بسلطته، ويقع قي فخ التناقض.. اللاتناقض…
– “لاحظتو أن عدد حالات الانتحار ارتفع، والسلوك البشري كولو شهد رجة على مستوى الوجدان والوعي الجمعي…”.
– “المدارس الخصوصية أبانت عن جشع منقطع النظير، وتدخل الدولة كان قي مستوى التطلعات”.
– “الوزارة استغلت الوضع وحالة الطوارئ لإقبار ملفات تغيير الإطار، وخارج السلم والدرجة الممتازة، والتعويض عن العالم القروي ومعالجة ملفات طلبات الانتقال لأسباب صحية، وقذفت بنا في صحراء التعليم عن بعد…”.
-“ملاحظتوش ان الإنسان استاطع يعيش بلا كماليات وأنه يمكن لو يتقشف حتى فالضروريات، الغرب قحمنا فدوامة الاستهلاك قحما”.
-“شريتو التمر ولا مازال؟ سوق التمر بواندو وصلاتو اليوما واحد لماركا تونسية ملحمة ورخيصة، واخا تمشيو غدا غتلقاوه تسالا”.
-“راني واقف على واحد الفيدونج وليكيليبراج والديكالاميناج باش تنصحوني؟”، تتقاطر عليه اقتراحات بعدد مصابي كوبيد 19 بالجهة.
يمتد بهم النقاش للعطلة الصيفية وهشاشة أنظمة التغطية الصحية، وسيناريوهات إنقاذ السنة الدراسية والأجرومية والأربعين النووية والفياشية وليالي الحلمية، ويقف عند “عبد الصبور” النادل ولد التسولية ووساوسه المرضية.
-“خليونا من هاد الشي ديال لقراية وقولولي واش نعطيوهالو فلوس ولا نشريولو شي حاجة؟
-“شوف اللي مرض دابا محظوظ، على الأقل سيكتسب مناعة وسيجد سرير إنعاش”، يتكلف أحدهم بوضع المبلغ المحصل داخل ظرق بريدي، ويعدهم بتسليمه لجواد بمجرد تماثله للشفاء.
-“هاد المركب الاستشفائي عطا إشعاع كبير لفاس”.
-“وفين خليتي جامع القرويين والبوعنانية والمصباحية ومدرسة الصهريج ومدرسة الشراطين والمركب الحرفي د”لالا يدونة”…؟”.
ينتقل بهم الحديث لشجون رمضان، وفتوى تعطيل صلاة التراويح وتوحيد رؤية الهلال، وشرعية ثبوت الرؤية بالعين المجردة وبالمناظير القلكية، واحتكار الكمامات وسيناريوهات ما بعد الحجر، وتقييم أداء لجنتي اليقظة الاقتصادية والنمودج الاقتصادي التنموي، وحدود استقلالية السلطة القضائية ومدى تماسك النظام الاجتماعي، والحريات الفردية والعدالة الاجتماية وهفوات الإدارة واختلالات النظامين الصحي والتعليمي، ويقف بهم عند الـ 3568 مصاب والـ 155 متوفى وهم يتمنون الشفاء العاجل لزميلهم…
يستأنف احدهم الجدل مرة أخرى وهم يستعدون لمغادرة مرآب المركب بعد تعذر زيارة زميلهم.
-“اشتقنا لارتقاع أصوات الدق على أواني الطبخ النحاسية بالصفارين، وانبعاث رائحة نثانة الجلود من دار الدبغ المحاذية. افتقدنا تنافس الصناع والمعلمين في النجارين والحدادين والطالعتين والشماعين على تخريم ونقش وزخرفة الخشب والجلد والمجاديل والطين والنحاس والزليج، بنادم وكينقشوه، هل تعلمون هدوك لمعلمين الصنايعية يختلط عليهم الحجر بالبشر، والناس بالنحاس…؟ يقترفون تعالما ما بلغه انس ولا جان، ينخرطون في غزل المعاني، وترصيع الكلام وتخريم التعابير ونسج الحروف وترتيق فتق الدلالات بالكثير من العمق والحمق… الكثير من اللاعمق واللاحمق؟…
-“أغلب قصائد وصنايع الملحون ألفوها الصنايعية”.
هكذا هم المعلمون و”المعلمين” يحطمون قداسة العلم والأديان والأوتان، يتقمصون دور النبي والداعية والمصلح والحكيم والمبشر والشيطان، يصنعون الحكي ويغزلون البرهان، يصلحون النعل والدش والسندان، يطمعون في التحكم في الأقوال والنوايا والأفعال، يستلون الحقيقة من شعرة عجين الوهم والتأويل والبهتان… اللابهتان، يتناسون الإنصات، وينزاحمون لاحتكار الكلام، وفرض وصاية على كل الكلام مطلق الكلام… اللا كلام…
تعبر المقالات المنشورة في “منتدى الديار” عن رأي أصحابها، ولا تمثل بالضرورة وجهة نظر الجريدة