جمال بوشمال يكتب: للأفكار أجنحة
محنة المفكر الأستاذ سعيد ناشيد، صدقا لا أعرف الرجل ولم يسبق لي ان قرأت له حتى احكم له أو عليه، وإن كنت شغوفا للموضوعات التي يتناولها ويخوض فيها الرجل، والتي تعرفت على بعض منها من خلال هذه المحنة التي نأمل زوالها قريبا، وكما يقال رب ضارة نافعة، على الأقل مكنتنا هذه المحطة من محنة الرجل من التعرف على مفكر وعلى اعماله التي سنستفيد منها في القادم من الأيام .
محنة الفكر والرأي، وإن اختلفت من حيث الزمان والمكان، إلا أنها ليس بالأمر الجديد علينا، فقد عانى سابقوه من المفكرين الأوائل ممن تميزوا بالفكر الحر في التعبير عن معتقداتهم وافكارهم، و تكاد تذكرنا هذه المحنة بالمحن الكبرى التي شهدها بعض كبار العلماء والمفكرين على مر التاريخ، وهي تعكس الصراع بين المفكر من جهة وولي الأمر و السلطان قديما و بالسياسيين واصحاب السلطة حديثا، لاسيما أولئك الذين تتسم ممارستهم للشأن العام بالاستبداد والتسلط، علتهم في ذلك استتباب للأمن وحماية للعقيدة من الزندقة، شأنهم في ذلك شأن حراس المعبد إبان عصور الانحطاط في أروبا، بل وأحيانا يأتي التكفير والهجوم والذم من قبل علماء اختلفوا معهم في التوجه والمعتقد .
فالسياسي وحتى (العالم أحيانا) المفتقد لأدبيات الحوار والجدال، هو صاحب الرأي الذي لا رأي سواه، فإما اتفقت معه فنجوت، وإما اختلفت معه فالويل لك ويلا لا تدري متى يبدأ ولا أين ينتهي.
الصراع الغير المتكافئ بين صاحب القوة السياسية والأعزل منها، حين يقع بينهما اختلاف في الرأي، مهما تكن قيمة ومنزلة هذا الأعزل بين أهل العلم قد ينتهي إلى الإجهاز ليس على الشخص في ذاته، بل يتجاوزه لمحاولة اجتثاث لأفكاره وآرائه، رغم ما تنطوي عليه هذه الافكار بين ثنياها من قيم معرفية، قد تسهم غالبا في النهوض والتحرر نحو آفاق أرحب.
المعضلة كل المعضلة في مجال الفكر هو أن يجتمع السيف والرأي الذي لا رأي غيره في يد واحدة، ولنا في تاريخينا القريب والبعيد أمثلة، تصف ما تعرض له المفكرون عبر العصور من ممارسات تتخطى احيانا ما يمكن تصوره وتقشعر له الابدان.
فهذا أبو العلاء المعري، الذي كان لعميد الأدب العربي طه حسين، موعد مع ذكراه، نال على إثرها درجة الدكتوراه من الجامعة المصرية سنة 1914 ، والذي تعرض هو الآخر لهجمات الظلاميين دعاة الجهالات والجمود في المنطقة العربية نصيب وافر حيث خاض أنواعا من المعارك ضد السلفية والجمود الديني وكذلك ضد الاستبداد السياسي والطبقي في مصر انتهى بفصله عن عمله في الجامعة حيث تعرض لحملة مسعورة من قبل رئيس الوزراء آنذاك اسماعيل صدقي .
يصور أبو العلاء معاناته واصفا ذلك بقوله:
جلوا صارما، وتلوا باطلا وقالوا: صدقنا، فقلنا: نعم
فقد اتهم بالزندقة من قبل بعض علماء المسلمين، كابن كثير، وابن القيم الجوزية وابو الفرج بن جوزي والذي قال فيه :
زنادقة الاسلام ثلاثة: ابن الرواندي وابو حيان التوحيدي وابو العلاء المعري.
وقد لا تنتهي المحنة بصاحب رسالة الغفران، فهذا الشاعر بشار، تقطع رأسه لمجرد رأي ظل حبيس أفكاره، ولم ينفعه كتمانه عن الخليفة المهدي، الذي امر سيافه بضرب رأسه.
قال بشار للخليفة: علام تقتلني
أجاب المهدي على قولك
رب سر كتمته فكأني أخرس، أو ثنى لساني عقل
ولو أني أظهرت للناس ديني لم يكن لي في غير حبسي أكل
فقال بشار: قد كنت زنديقا، وقد تبت عن الزنادقة..
أجابه المهدي: كيف وأنت القائل ؟
والشيخ لا يترك عاداتـه حتى يوارى في ثرى رمسه
إذا ارعوى عاد إلى غيه كذي الضنى عاد إن نكسه
قصة الحلاج المتصوف وما قاله في مذهبه في الحلول، حيث ناظره علي بن عيسى الوزير والذي ضاق به درعا، فقال له آخر الأمر: تعلمك لطهورك وفرضك أجدى عليك من رسائل انت لا تدري ما تقول فيها…. ما احوجك إلى أدب.. !
وانتهى أمره بقطع يديه، ثم بإحراقه بالنار..
وانظر كذلك إلى قصة حكيم آخر واديب وناثر، لا زلنا نقرأ أدبه وحكمته النافذة إلى يومنا هذا، هو ابن المقفع ومحنته مع سفيان بن معاوية الذي كان نائبا بالبصرة عن الخليفة، والتي انتهت بتقطيع قطع من لحم جسده وهي تحرق أمامه، إلا أن احرق بقية جسده.
ولعل اشهر المحن في تاريخ الأمة العربية والإسلامية، محنة الإمام أحمد بن حنبل والتي تعكس العلاقة بين صاحب القوة السياسية والاعزل منها، حين يختلفان، وذلك في ما ترويه الكتب عن قضية خلق القرآن الكريم، وهل القرآن ازلي أم محدث، إلى غيرهم من المفكرين والعلماء على امتداد التاريخ.
كذلك، وبينما كانت النيران تلتهم تراث ابن رشد ورسائله وكتبه، كان الناسُ حوله يهتفون فَرَحاً وسروراً بالقضاء على الزندقة والخلاص من الكفر! ولاحظّ ابن رشد أن أحد تلامذته كان يبكي بحرقة على الفكر الذي تلتهمه النيران، فهدأه ابن رشد قائلاً: إذا كنت تبكي حال المسلمين فاعلم أن بحار العالم لن تكفيك دموعاً، أما إذا كنت تبكي الكتب المحروقة فاعلم أن للأفكار أجنحة وهي تطير لأصحابها.
وليتواصل مسلسل الاجهاز على كل من يحمل فكرا حرا_ قد يكون موضع اتفاق و مخالفة، ويظل الحوار والجدل الفكري العقلاني هو الفيصل في ابراز متانته_، فحينا باغتيال وتصفية – كما حصل مع المفكر المصري فرج فودة، والذي حينما سئل قاتله عن سبب قتله قال: كان زنديقا ملحدا، وسئل من اين تبين زندقته والحاده هل قرأ كتبه وابحاثه ،فأجاب بأنه امي لا يقرأ ولا يكتب- أو ينتهي الامر بنفيه خارجا، وحينا بالتضيق الممنهج على ممارسة الحريات وبقطع الارزاق حينا اخر ، ولتنضاف محنة المفكر سعيد ناشيد إلى سلسلة الممارسات التي أقل ما يمكن أن يقال عنها انها ممارسة مقيتة وحاطه بكرامة وطن – يدعي القطع مع الماضي، وينشد المستقبل -، قبل أن تكون حاطه بكرامة مفكر، كل ذنبه انه يحكم عقله فيما يحكم فيه غيره أهوائه ونزوات سلطاته، فلئن كان من الممكن جدا التضييق وحبس مفكر واعدامه وإحراق أعماله ، فإن لأفكاره أجنحة تطير بها، كما خلد ذلك ابن رشد.
تعبر المقالات المنشورة في “منتدى الديار” عن رأي أصحابها، ولا تمثل بالضرورة وجهة نظر الجريدة