عبد السلام انويكة يكتب: الفقيد الحاج أحمد الشيكي في ذاكرة المعهد الموسيقي لتازة

فقدت أسرة طرب الآلة الأندلسية مؤخراً أحد علاماتها وأثاثها وأحد ألمع عازفيها بسبب وباء كورونا اللعين، إنه الحاج أحمد الشيكي الذي قال له وفي حقه يوما شيخه الحاج عبد الكريم الرايس رحمه الله قبل عقود من الزمن أثناء إحدى حصص الدرس “لْطِيفْ لْطِيفْ”، لمَّا سأله رحمه الله بكل وتلقائية عن حال سير تعلمه ودرجة اكتسابه وأفق مساره واختياره، وهو لا يزال في بداية تلقيه لقواعد تراث فني مغربي أصيل بدار عديل بفاس. وقد صدق تقدير شيخ صوب تلميذ فكان حقاً لطيفاً حافظاً متميزاً مبدعا خلوقاً، بطيب قلبٍ ولسانٍ عذبٍ وتواضع وحسن سلوك ووفاء لعلها شيم مؤمنين صادقين اصطفاهم الله في خلقه.

عاش الحاج أحمد الشيكي حياة توزعت بين عبادة الله تعالى وطرب الآلة كهويةٍ وتراثٍ بهيبة خاصة وحرمة وصفاء وذوق راق، أخذ رحمه الله وخالط بفاس وما أدراك ما فاس بمعالمها الأندلسية الرمزية والمادية كبار أساتذة هذا الحقل وشيوخه خاصة منهم الحاج عبد الكريم الرايس، كذا منشدين كبار متميزين وحفاظ وباحثين في تراث وفن طرب الآلة ورجالاته وتاريخه، فتشبع وارتوى بعشق طرب روحي وأدرك مكانته وقيمته كبناء حضاري أصيل ونُطم طربية نغمية وروحية مغربية عريقة ضاربة في تاريخ بلاد وعباد. هكذا بدأت قصة حبه رحمه الله تعالى لهذا التراث لدرجة بات متنفساً روحياً له أينما حل وارتحل، مجتهدا في تعلمه وتملكه واكتسابه واشفاء غليله ومجاهداً في تعليمه وحمايته وصيانته، بل وبعصامية خاصة تمكن من بناء موقع متميز له منذ بداياته لدرجة لفت انتباه أهل الشأن وشيوخه، فكان ما كان من مسار موفق وبصمةِ ذاتٍ تلك التي قال عنها عبد الكريم الرايس بذكاء وتأمل شيخ مُلمٍ عارفٍ “لْطِيفْ لْطِيفْ”.

لقد نجح الحاج أحمد الشيكي في جمع ثقافة موسيقية فنية تراثية على درجة من الأهمية في علاقة بمجال اهتمامه”طرب الآلة”، كمصدر رزق ومن تمة مهمته كأستاذ لهذه المادة بدُور تعليم ومعاهد موسيقية لعقود من الزمن هنا وهناك بفاس وخارج فاس. فجمع رحمه الله ما جمع من تراث رمزي موسيقي مغربي أصيل، وبلغ ما بلغ من تميز وموهبة وعزف وكاريزما خاصة جعلت منه أحد أعلام طرب الآلة بفاس. ورغم ما كان عليه من مكامن قوة وأداء وتملك ظل مخلصاً وفياً لشيوخه حريصاً على وصيتهم بالسير على منوالهم وقناعتهم كعادة وتقليد وسر كان يطبع التعلم في مدارس عتيقة من عقيدة علاقة وتشبع وتعاقد وأصول وأخلاق، تجاه ما ينبغي من تواضع مهما بلغ الانسان من دراية ومعرفة ومهارة وكفاية في بحر واسع مثلما هو الفن والتراث والموسيقى (في الفن التراثي الأصيل من لا خُلق له لا فن له). وعليه، كان شخص الفقيد رحمه الله بتواضع قل شبيهه وبنكران ذاتٍ ولطفٍ وجميلِ صفاتٍ طيلة مساره الفني، مترفعاً قنوعاً متعففاً خلوقاً بحساسية شعور ووجدان وقلب رهيف رحيم تجاه كل أمر.

هكذا كان شخص الحاج أحمد الشيكي الأستاذ والفنان رحمه الله، وهكذا تبلورت موهبته وتربى في رحاب شيوخ، وهكذا تذوق تراث طرب الآلة مبكراً بفاس القديمة عبر ما كان يسمعه ويشاهده ويتعلمه هنا وهناك بمدارسها وبيوتها ودروبها، وهكذا أدرك رحمه الله قيم تراث وثقافة مغربٍ فعشق طرب الآلة واختاره سبيل حياته ورزقه، مع عنايةٍ وحرصٍ على تملكه وغوصٍ قدرَ ذاته وجهده في مسالكه وأغواره لعقود من الزمن. مستفيداً من نصوصه وجمال تعبيره وطبعه ومقامه وايقاعه وانسيابية نغمه الروحي الرمزي، ومما كان عليه من اطلاع من خلال كتب ومؤلفات ودراسات وما كان يحضره بفاس وخارج فاس من ندوات وملتقيات فنية ودروس علمية وتجارب وخبرات وغيرها. هكذا كان عشقه رحمه الله لطرب الآلة حتى النخاع عارفاً بأصوله وماضيه وشيوخه وامتداده وتلاقحه، بوعي وتبصر كبير صوب تراث أصيل من خلال ما كان عليه من معرفة وتتبع ومراكبة وتفاعل وتقييم ومن تمة من تعليم وتكوين وتأهيل.

نهل الحاج أحمد الشيكي وأخذِه عن شيوخ فاس ومن خلال تفاعله مع ما كان من تجارب خارج فاس، عمق عشقه لطرب الآلة كفن اصيل، فكان أن تفتقت موهبته وتعمقت حفظاً وأداء وعزفا حتى بلغ نضجاً وموقعاً جعله علامة ومعادلة رافعة لجوق فاس لطرب الآلة (إرث عبد الكريم الرايس)، بل ومن أبرز العازفين على آلة العود لدرجة العمادة لِما طبعه من رصانة فعلٍ وتفاعلٍ وأداء وتملك واحترافية. ليكون بحق رحمه الله قد أسهم بنصيب معبر لعقود من الزمن رفقة زملاءه في جوق عبد الكريم الرايس، في بقاء تراث فاس وتراث المغرب الأندلسي الرمزي الفني مستمراً عابراً حياً صافياً نقياً، مؤثثاً لحضارة فاس كقلعة من قلاع طرب الآلة المغربية والمغاربية الأصيلة منذ قرون ولا تزال.

إن ما أخذه وجمعه وتشبع به رحمه الله حول طرب الآلة لعقود من الزمن، جعله بِلغةٍ موسيقية اندلسية خاصة لدرجة تفرد، وبثقافة موسيقية تراثية تنم عما كان عليه من حرص على اصولها من جهة ومن اجتهاد لوسيع وعاءها والتعريف بها  كذا اشعاعها ووقعها وأثرها وتعليمها من جهة ثانية. ولعله كان من العارفين بمكونات تراث طرب الآلة كموشحات وزجل ونغم ومن المتمكنين من نوباته وطبوعه، كما هو غير خاف عند المهتمين من اصبهان وحجار كبير وحجاز مشرقي وعشاق وماية ورمل الماية ورصد وغريبة حسين ورصد الذيل واستهلال وعراق عجم.

عمل رحمه الله أستاذاً لمادة “الأندلسي”بالمعهد الموسيقى بفاس لسنوات، فكان بفضل في نقل تراثٍ وإعداد خريجين متميزين أخذوا عنه مستفيدين مما كان عليه من تكوين متينٍ وخبرةِ أداءٍ وعزفٍ منهم من يحمل الآن مشعل طرب الآلة بفاس. كما عمل أستاذا زائراً لمادة “الأندلسي” بالمعهد الموسيقى لتازة كواحد من أوائل وأقدم المؤسسات الفنية  بالمغرب التي تعود لبداية سبعينات القرن الماضي، فكان رحمه الله جزء من فترة ذهبية لهذه المؤسسة خلال فترة التسعينات بأثر في مجدها وفي ما كانت عليه من اشعاع وهيبة علمية فنية واقبال وتكوين وتأهيل في جوانب عدة منها “الأندلسي”، وهو ما جعل تازة بوقع واسم حاضر إن في مباريات وطنية من أجل شواهد عليا أكاديمية، أو على مستوى مواعد احتفالية فنية وطنية كبرى.

ولعل أول مشاركة لتازة من خلال جوق معهدها الموسيقي في ملتقى الأندلسيات بشفشاون قبل حوالي عقدين من الزمن، كانت بفضل وبرئاسة الحاج أحمد الشيكي الذي تمكن من تأثيث جوق أبان عن تميز حضي بتقدير جمهور عاشق مُلِم، وجعل تازة بوقع وموقع في موعد فني تراثي وطني الى جانب فِرقٍ عريقة آنذاك مثل فرقة سلا برئاسة عدنان السفياني وجوق فاس برئاسة محمد بريول وجوق شفشاون برئاسة محمد اغبالو وجوق تطوان برئاسة أحمد شقارة، وفرقة بلابل الأندلس برئاسة عبد الكريم العمارتي وجوق جمعية فويتح للموسيقى الأندلسية برئاسة أحمد الزيتوني، والفرقة النسائية بشفشاون برئاسة عائشة أبراق، وجوق مكناس للموسيقى الأندلسية برئاسة محمد الهواري، وجوق الرباط برئاسة أمين الدبي وجوق تطوان برئاسة الأمين الأكرمي.

وقد ترك رحمه الله بصمات له بتازة كأستاذ عمل بمعهدها الموسيقى لسنوات، من خلال خريجين متميزين أخذوا عنه معرفة ومكتسباً ومهارة يعلق عليهم أمل كبير في حمل المشعل. وفق ما كان ينشده ويدعو له دوماً رحمه الله خدمة لطرب الآلة كتراث من جهة، وخدمة لمدينة عريقة كانت بأعلام تازية بارزة طبعت طرب الآلة بفاس كشيوخ لهذا التراث لعقود من الزمن مثل” لبزور” “مصانو” “تويزي”.. من جهة ثانية. ولعل تردده على تازة رحمه الله كأستاذ زائر رغم مشقة تنقله من فاس طيلة هذه المدة، ارتبط بما كانت له من علاقة موسيقية وصداقة محفزة مع الاستاذ عبد اللطيف المزوري مدير المعهد الموسيقي آنذاك، والذي كان يقدره أحسن تقدير ويستضيفه من حين لآخر ببيته سواء خلال فترة دروس له لأكثر من يوم أو أثناء فترات امتحانات وأنشطة احتفالية..، ونفس الشي ما كان يقوم به الحاج الطيب بن عصمان لِما كانت بينهما من مودة خاصة قاسمها المشترك الأخذ وعشق التراث وطرب الآلة، ناهيك عما كان يحظى به رحمه الله من مكانة وتقدير من قِبل تلامذته وعشاق طرب الآلة بالمدينة عموماً مثل الحسين الأمراني رحمه الله وغيره كثير. هكذا كان دفئ تازة وكرم أهلها وتقدير معهدها حافزاً لقضائه كل هذه المدة رغم بعد مسافة وكلفة تنقل أسبوعي لسنوات، فكان ما كان اعترافاً بجميل عمله رحمه الله من تلقين وتكوين وإسهام في احياء وتنشيط مواعد ولقاءات فنية تراثية أندلسية دون مقابل وبنكران ذات هنا وهناك بالمدينة خلال فترة التسعينات.

وفاة الحاج أحمد الشيكي رحمه الله بسبب وباء كورونا اللعين لاشك أنها خسارة كبيرة لطرب الآلة بفاس، والعزاء كما تجاه مبدعين فنانين آخرين سبقوه الى دار البقاء رحمهم الله تعالى، فيما خلفه من تلامذة وخريجين ومن عمل فني راق بأماكن ومناسبات عدة رفقة جوق عبد الكريم الرايس، بيته الرمزي وزاويته التي عشقها وأثثها وسكنها وسكنت قلبه لسنوات طوال حتى وفاته رحمه الله. لقد فقت فاس وفقدت أسرة الموسيقي الأندلسية بفاس، رافعة وعلامة هامة وإسماً مبدعاً فنانا عازفاً رفيعاً وأستاذاً متميزاً بمسار وخبرة واسعة وحِضنٍ لفن أصيل وتراث لعقود من الزمن.

يشاء القدر أن يلبي الحاج أحمد الشيكي رحمه الله تعالى دعوة ربه ويرحل إلى دار البقاء بسبب وباء لعين، محفوفاً برعاية الله تعالي مشمولاً بحب وتقدير من عرفوه وعايشوه وجايلوه كفنان وأستاذ وانسان..، سلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيا، وليس أعظم من قوله تعالى: يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية وادخلي في عبادي وادخلي جنتي” “وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون”.

تعبر المقالات المنشورة في منتدى الديارعن رأي أصحابها، ولا تمثل بالضرورة وجهة نظر الجريدة