رشيد الكنز يكتب: نحو تمثل جديد لتكنولوجيا المعلومات والاتصال بالمؤسسة التعليمية

انطلق قبل أيام الموسم الدراسي الثاني في ظل جائحة كوفيد19، ولعل أبرز ما يميزه هو تعدد الأنماط التربوية التي كان لزاما توفيرها للإجابة على تحديات المرحلة. من بين هذه الأنماط نجد التعليم عن بعد والذي يعتمد أساسا على توظيف تكنولوجيا المعلومات والتواصل، مما يفرض علينا لزاما الوقوف على مدى استعداد الفاعل التربوي لتملك واستدماج الثقافة الرقمية في ممارساته اختيارا وليس إجبارا. إن هذا الخيار الاستراتيجي مرتبط في نجاح تنزيله، بالأساس، بتمثل هذا الفاعل حول هذه التكنولوجيا والذي يغلب عليه اليوم الطابع التقني والتبسيطي لاستخدام الموارد الرقمية وتوظيفها كبديل للوسيلة التعليمية التقليدية.

 فما هي تكنولوجيا المعلومات والتواصل؟ وهل تمثل وسيلة أم بيئة للتعليم والتعلم؟ وما علاقتها بالإدراك؟ وكيف يمكن استثمارها داخل الفضاء المدرسي؟ في هذا المقال سنحاول، بشكل مقتضب، بسط مجموعة من الأفكار والتي يمكن أن تشكل مدخلا للتدبر في صيغ جديدة لتوظيف وإدماج تكنولوجيا المعلومات والاتصال بشكل مغاير لما تعودنا عليه.

(الجزء الأول 1/2)

لقد عرفت البشرية عدة ثورات حضارية ارتبطت أساسا بنوع سند الكتابة، فمن الكتابة اليدوية على الحجر وجلد الماعز ثم الورق إلى الطباعة الآلية على الورق إلى الرقن على الحاسوب اليوم، وبعد أن كانت كتابة نص ونقله وتوزيعه تتطلب جهدا جهيدا، صار اليوم عملا سهلا، بل أصبح بالإمكان حمل مكتبة كاملة في جيب المعطف دون عناء. لقد صار تطور المعرفة سريعا لدرجة لم يعد بإمكاننا تتبعها في مختلف أوجهها، وصار توظيف الحاسوب وتكنولوجيا المعلومات والتواصل سبيلا لا محيد عنه للتعامل مع الكم الهائل من المعلومات، مما زاد ثقلا جديدا على كاهل كل تربوي مهتم بتطوير أدواته وتحيين معارفه ومجاراة تطور العلوم والآداب والاختراعات.

اليوم، تغيرت أهداف التربية ووسائلها وتطورت غايات التعليم، فلم تعد المعرفة هدفا يسعى إليه المدرس والطالب نظرا ليسر الوصول إليها، ولكن أصبح المسعى الحقيقي هو البحث عن المعرفة ومعالجتها وتمحيصها للحكم على مصداقيتها. إن المتعلم اليوم بحاجة أكبر إلى سبل معالجة المعرفة وإلى اكتساب تقنيات التعامل مع الوسائل التكنولوجية الحديثة وكذلك إلى مجموعة من المهارات التي تمكنه من القيام بهذه الأدوار من قبيل: مهارة التفكير واتخاذ القرار وحل المشكلات والتعلم الذاتي. إن التطورات المعلوماتية أصبحت تفرض على الجميع التفكير في طرائق جديدة للهندسة البيداغوجية، فتكنولوجيا المعلومات والاتصال أصبحت ضرورة لكل الأفراد واكتساب كفاية التعامل معها صارت إحدى أهم الكفايات التي على المتعلم تطويرها. ومن البديهي القول بأن أساس تمرير هذه الكفاية للمتعلم هو المدرس بداية، فيجب على هذا الأخير تملك طرق التعامل مع هذه التكنولوجيا وإدماجها في طرق تدريسه وأساليب تقويمه.” إن المعلم الناجح في الوقت الحالي ليس هو المعلم الخبير في تخصصه والمتقن للمادة التي يدرسها فقط، وإنما هو الماهر في دمج التكنولوجيا في تدريسه”، حيث لم يعد المدرس مجرد ناقل للمعارف بل أصبح لزاما عليه إشراك المتعلم في طريقة البحث والتعامل والحصول عليها بغية تطوير معارفه وتحقيق أهدافه. من هنا تنبع ضرورة توفير تكوين أساس ومستمر في هذا المجال لكافة المدرسين. ” إن عملية تصميم المناهج توجب وجود خطة متكاملة تكنولوجيا لإتمام عملية التصميم بالشكل الأفضل.”

بداية لا بد من تعريف تكنولوجيا المعلومات والتواصل، ورغم صعوبة الأمر نظرا لتعدد التعاريف التي تختلف بحسب زوايا النظر، فسوف نقتصر هنا على التعريف التالي: “تكنولوجيا المعلومات والاتصالات هي التكنولوجيا المبنية على جمع وتخزين ومعالجة ووضع هذه المعلومات في حزم متكاملة ومن ثم الوصول إلى المعرفة” بتعبير آخر هي مجموع الأجهزة والمفاهيم والأنشطة التي تيسر الولوج إلى المعلومة والخدمة الرقمية.

وللحديث عن التمثلات حول هذه التكنولوجيا سنبدأ بالتساؤل حول الوضع الذي يحتله الحاسوب باعتباره الركن الأساس في هذه التكنولوجيا. أي وضع يجب أن يكون للحاسوب أثناء تعاملنا معه؟ فالحاسوب ليس أداة بسيطة تقدم عدة وظائف بل هو بيئة تمكن المستخدم من بناء معان جديدة. لقد أثبتت الدراسات أن تعلم الإنسان لا يتم فقط على مستوى عمليات ذهنية داخلية وإنما أيضا من خلال تفاعله المستمر مع المحيط. فكما يؤثر الإنسان في المحيط أثناء تعلمه فإن المحيط يؤثر فيه أيضا. وبالفعل، أثناء هذا التفاعل تلعب السيرورات الحسية الحركية أو ما يمكن تسميته بالإدراك الحركي دورا كبيرا. إذ بواسطة هذا الإدراك للأفعال وللأهداف المتوخاة تنبني القدرات المعرفية للفرد، وتكرار هذه الأفعال هو ما يسمح بالتعلم. ومن ثمة فإن أفعال الإنسان في محيطه هي التي تولد الإدراكات والتي بدورها تساهم في إعطاء معنى للنشاطات مما يعمل على توليد التعلمات. باختصار، الفعل يرشد الإدراك والإدراك يرشد الفعل، ومن هذه الجدلية تنبثق البنيات المعرفية أو التعلمات.

إن الإدراك كما يخبرنا كاتشاتورف وأوفراي يتغير باستعمالنا للأدوات “الإدراك ناتج عن الأفعال والمشاعر التي تتولد عنها، فجسدنا وبالتحديد حواسنا كالبصر واللمس… هي التي تسمح بالتقاط المعلومات من الوسط وهي التي تقوم بتحليلها بعد ذلك. ومن ثم يمكن التساؤل حول ما إذا كان الإدراك دوما حسيا إذا استعمل الفرد أداة؟ فالأداة يمكن أن تمثل رابطا بين الفرد والمحيط والتي بواسطتها يصل الفرد إلى المعلومات. وكمثال يبرهن على هذا الاعتقاد يسرد العالمان مثال اللغة، فاللغة أداة يمكن بواسطتها التعبير عن حدث ما وهو ما يمكن أن يتخذ عدة أشكال حسب مستعمل هذه اللغة، مما يؤثر ويغير من إدراكنا للحدث. ومن هنا يمكن اعتبار أن الأداة تسمح بالإدراك، مما يفتح بابا واسعا لاستنتاجات أخرى، وبالتالي يمكن القول بأن استعمال أدوات جديدة يسمح بإدراكات جديدة، فالعلاقة بين الجسد والأداة والمبنية على الارتباط الموجود بين الأفعال والمشاعر المتولدة عنها ستجعل الأداة تعمل كذاكرة خارجية تسمح للفرد بالاحتفاظ بأفعاله. ووجهة النظر هذه تشكل أساس التساؤل حول الوضع الذي يجب أن يكون للحاسوب أو لنتاجه (المورد الرقمي) داخل العملية التعليمية التعلمية. فهل ننظر إليه كوسيلة كباقي الوسائل أم ننظر إلى استعماله من طرف المتعلم وما يمكن أن يحدثه هذا الاستعمال من تغييرات على مستوى الإدراك؟ إن استعمال الحاسوب مثلا يمكن أن يتخذ شكلين اثنين، أداة(outil) أو آلة (instrument). يجيب برويارد في مقال: “إن المهنيين في هذا الباب ينقسمون إلى فريقين: فريق يقول بأن المعلوميات هي مادة مستقلة وآخر يعتبر أنها يجب أن تكون في خدمة المواد الأخرى.” وقد استنتج أن أغلبية العاملين بالحقل التربوي يعتبرون الحاسوب أداة أي وسيلة تسمح بإتقان الأنشطة بشكل أكبر وفي وقت أقصر، في حين يعتقد برويارد بأن الحاسوب أكثر من ذلك وأن النظر إليه كأداة يحد من الإمكانات التي يتيحها استعماله. ومن أجل شرح ذلك يبسط العالم الفرق بين الأداة والآلة (outil) et (instrument)، رغم أن كليهما يدويان إلا أن الآلة (instrument) تتميز بحاجة مستخدمها إلى خاصية الدقة أكثر من الأداة(outil) والتي تبقى مرتبطة أكثر بالأعمال البسيطة، فالآلة لها طابع النبل والفكر. وهكذا يمكن القول إن الحاسوب يمكننا من مجموعة من المعلومات والتي ندركها ونقوم بتحليلها ثم توظيفها في أفعال مختلفة، وهذه الأفعال تختلف باختلاف إدراكاتنا للمعلومات. إذن فاستخدام الحاسوب كآلة يتطلب منا التفكير في كيفية الوصول إلى أهدافنا بشكل أدق. يتبين مما سبق الاختلاف بين النظرتين، فاستعمال الحاسوب كأداة فقط يجعلنا أمام وسيلة لا تتطلب تفكيرا من طرف المستعمل بل فقط تطبيقا لتحقيق مهمة ما، بعكس استعماله كآلة مدمجة في التعلمات بحيث تستحضر وظائف الآلة موارد المستعمل المعرفية. إن الحاسوب بذلك لا يمثل فقط وسيلة للإنتاج ولكن مساعدا للفرد على اتخاذ القرارات. ويمكن إرجاع، دائما بحسب برويارد، تفشي النظرة إلى الحاسوب باعتباره أداة إلى عدة عوامل: منها ما هو تاريخي يرتبط بنشأة الحاسوب كأداة للحساب، ومنها ما هو مرتبط بقدرات المدرسين على استعمال المعلومات بشكل محترف لإدماجه في القسم.

(يتبع)

تعبر المقالات المنشورة في منتدى الديارعن رأي أصحابها، ولا تمثل بالضرورة وجهة نظر الجريدة