عزيز باكوش يكتب: مسلسل سلمات أبو البنات.. إضاءة وسلسلة انهزامات

المخرج هشام الجباري وفريق عمل سلمات أبو البنات ،المبثوث يوميا على قناة إم ب سي 5 أغرقنا معه في مستنقع آسن من الاعتقالات وليالي السجون المقمرة ، وشحن بطارياتنا بصنوف القهرة والضيم والبكاء والعويل والدم والانتحارات والسجون بعيد موعد الإفطار بقليل ، ولأنه نجح إلى حد بعيد في إدخالنا كمشاهدين مغاربة وعرب في دهاليز أنفسنا عبر دوامة القهر المجتمعي وهو قدر الذات العربية بكل صنوفه وألوانه .
فقد صرنا معبئين لدرجة أصبحنا بعد كل مشاهدة على كامل الجهوزية والهوس لاستقبال كامل صنوف العذاب النفسي في عز الجائحة .فإنه بالمقابل سيفشل من الناحية الفنية والجمالية في توطين الرؤية السينمائية بأبعادها في سرد الوقائع والأحداث .وسيصل إلى النهاية السعيدة بلا جهد فني . وهو ماحصل فعلا في الحلقة الأخيرة حيث أخرج لطيفة زوجة المختار من السجن ، واعتقل خالد الهارب، وأشفى يوسف من طعنة سكين وووو..وزوج بناته الثلاث لأشخاص تم رفضهم لأول وهلة …
قد يقول قائل : ولم هذا العبء؟ ولماذا هذا الاختيار من الأصل ؟ ثم ما دور أجهزة التحكم عن بعد و ما مدى فاعليتها السحرية العجيبة في تحويل مشاهد الرعب إلى حالات فرح عبر الانتقال من قناة إلى أخرى ؟ الجواب ببساطة، أننا أصبحنا من فرط حبنا للمغرب مجذوبين ومنجذبين وجاذبين وعلى أهبة الاستعداد للتصفيق لكل بؤرة جمال في المنتوج الوطني ، من إنتاج الكمامات إلى جافيل ديال لعبار .
لكن يبدو أن للمخرج هشام الجباري والوحش المختار وزوجته وبناته رأيا آخر على شاشة الدراما المغربية .. رأيا مختلفا تماما . فريق عمل السلسلة التي تدحض بقوة تلك الفكرة التي تقول أن المشاهدة القياسية للعمل عنوانا لقوته الإبداعية . بينما تؤكد من ناحية ثانية أن التجمهر حول حادثة مأساوية في الشارع العام مجرد فضول وليس رغبة وإشباع .
إذ لسبب فني أولضيق في الرؤية الفنية ، لم يرأفوا أو يشفقوا بحال المشاهدين الضحايا المحجورين ، الموضوعين رهن الحجر الصحي ، بل وجدوا الوقت الكافي لفرض مشاهد قهرية من نوع آخر ، وحاصروهم في حجر من نوع آخر أقسى وأمر ، ووضعوهم داخل دوامة من اليأس والإحباط ، والانبطاح والقهر النفسي والمجتمعي ضمن مشاهد ممططة للغاية ، وأمطروهم بوابل من الوساوس القهرية والبكاء الهستيري والصراخ المرضي بمناسبة أو بغيرها ، وصوروا المجتمع المغربي بكل شوهة وتهويل ، بحيث أن كل أسرة مغربية عندها البنات، هي كارثة حقيقية للمجتمع .
تكشف الحلقات سلسة من الجرائم والاغتصابات العميقة الضاربة في الجذر الطفولي ، اعتداءات تتعرض لها الطفولة بلا حدود وتسجل ضد مجهول ، ومع استقلالية الأسرة عن التربية والمراقبة اللصيقة لسلوكات الأطفال وملاحظة مشاعرهم وما يطرأ عليها من تغيرات في أحوالهم نتيجة الجهل والتخلف ، ومع كبت فئة من الرجال المحرومين المقهورين جنسيا ، نتيجة تربية محافظة بالغة التعقيد في محيط أسري تتعمق جراحاته بفعل الأنوثة المحرومة من حقوقها الطبيعية ، ما يجعل الرغبة في التخلص منهن فرحة لا تعادلها سوى الجنة .
أما الرغبة المحمومة للأسرة في إيجاد العريس دون تحفظ والزواج بسرعة للتخلص من الأنثى، فهي أقوى ما يشجع على الاعتقاد كما لو كانت الفتاة قدرا عربيا سيئا ، وعالة مجتمعية بلا أفق ، إنها في الموروث بؤرة جائحة لا يعلم ما خفي منها وما ظهر ، قد لايهم هنا ، إذا كانت الواقع المغربي المعيش يحبل بهكذا تناقضات ، و ربما أفضع من ذلك بكثير ، بل المهم هو الإخفاق الفني الذريع في نقلها دراميا ، والنجاح حد الإبهار في نقلها مباشرة كما هي في الواقع ، دون لمسة فنية ولا جمالية . بل المهم هو الحبكة الدرامية والسيناريو البئيس التي تم اختياره ، وزاوية الرؤيا التي بالغت في تهويل الأحداث حد التشويه ، بهدف إحداث الضرر النفسي ،تحت ذريعة التمطيط المرضي تحقيقا لتغطية عرض أيام رمضان الثلاثين . ليس إلا والسؤال : هل الإغراق المرضي في مشاهد التذكير بحوادث الاغتصابات البكاء والخبل والجنون وتكثيف مظاهر السوء في السلوك والأخلاق، و الاعتداءات والافتراءات والأباطيل المفتعلة التي تفضي إلى السجون تباعا قدرا فنيا يا هشام ؟
ثم إن منح 5 دقائق للممثل كي يشخص دور المخبول. ومثيلتها للتجول في الشارع دون هدف ، وتخصيص دقيقتين لتصوير مشهد بكاء ، ليس من قبيل الإبداع الفني . بل مجرد ثوان كافية ، ليتمم المتلقي البقية ، لأن منطق الإيحاء في السينما هو إشراك ذكاء المتلقي كضرورة فنية وإبداعية .
وبعيدا عن تقييم الممثلين وتشخيصهم للأدوار التي برعوا في أدائها ، لا سيما نجم الدراما المغربية دون منازع محمد خيي والقديرة لطيفة لاديب وجيل من المواهب الفنية الصاعدة التي تحتاج لصقل الموهبة وتطويرها ضمن أدوار ناجحة بعيدا عن الاستظهار واستلهام المسرح في السينما ، فإن مسلسل سلمات أبو البنات جائحة من نوع ثاني ، ليس لأنها تعكس واقعا بنيات مجتمعية هشة جاهلة متخلفة متناقضة وقابلة للتفكيك، وحلقاته تشبه دوامة لتوزيع اليأس بكل الأحجام والأشكال وبسخاء ، ليس لأن اعتماد منهج المبالغة المرضية في تصوير مآسي الأسرة المجتمعية ، بل لأن ذلك كان اختيارا منذ اللحظة الأولى اقتداء بتجارب درامية خارج الحدود .
فطوفان الصراخ المرضي للمختار المتقاعد ، والإجهاض المتبوع بعمليات الانتحار وأبواب السجون التي لا تغلق إلا لتفتح من جديد في وجه بنات وأسرة المختار وكذا عملية القتل المبالغ في تصويرها في زمن قياسي ، إمعانا في تتخيم المشاهد المغربي والعربي بعيدا عن فكرة الإيحاء النبيل في السينما ، أمر باستطاعة المبتدئين في الإخراج المسرحي القيام به ، بلى المحترفين في عز رمضان . وبذلك يتكالب العرض الفني الرمضاني لينضاف الى قساوة الحجر الصحي في زمن كورونا..

تعبر المقالات المنشورة في منتدى الديارعن رأي أصحابها، ولا تمثل بالضرورة وجهة نظر الجريدة