الخيار الاقتصادي الواقعي و الرد الشعبوي الحالم

بعد الجدل الذي خلفته الصراعات السياسية بين “الغريمين”، حزب التجمع الوطني للأحرار وحزب العدالة والتنمية في مدينة فاس والنواحي، والتي كان من نتائجها اعتقال مناضلين من “البيجيدي”، واتهام هذا الأخير لقيادي من “الأحرار” بالفساد السياسي في بيان ناري..

ولراهنية النقاش حول تداعيات جائحة كورونا والسبل الكفيلة بعودة الحياة إلى طبيعتها، خصوصا في جهة فاس مكناس، ولكون الفاعلين في هذا النقاش ينتمون للجهة.

تعيد جريدة “الديار” نشر مقال رأي للمنسق الجهوي، بجهة فاس مكناس، لحزب “الحمامة” يرد فيه على مقال رأي لعمدة مدينة فاس المنتمي لحزب “المصباح”.

بادر السيد ادريس الأزمي الإدريسي، عمدة مدينة فاس، النائب البرلماني و الوزير المنتدب السابق في الميزانية، الى التفاعل مع مقال السيد عزيز أخنوش – رئيس التجمع الوطني للأحرار الذي نشر في يومية  “أوجوردوي لو ماروك” في عدد 14 أبريل 2020 (و تناقلته العديد من المواقع الإخبارية الأخرى) تحت عنوان ” في مواجهة الأزمة، يجب دعم العرض و الطلب و الإبتعاد عن التقشف”.

رد السيد الأزمي جاء في مقال تحت عنوان “في مواجهة الأزمة : لا تقشف و لا افراط بل تضامن و مسؤولية و اعتدال”

بادئ ذي بدء يقر السيد الأزمي في مقاله  ب “صواب” دفاع السيد عزيز أخنوش عن ضرورة دعم الدولة للفاعلين الاقتصاديين في مرحلة الخروج من الأزمة الاقتصادية  المترتبة عن التوقف الشبه كلي للاقتصاد الوطني و العالمي المتأثر بتداعيات وباء كوفيد – 19.

وبتحليل عميق لمقال السيد الأزمي   نجد أنه لا يتعارض مع طرح السيد أخنوش، فالسيد الأزمي من حيث المبدأ يرى أن الالتجاء الى الاقتراض وسيلة لا محيد عنها عند الضرورة و خاصة حينما لا تكفي امكانات التكافل الوطني.  و خير مثال على ايمانه بضرورة الاقتراض التجاؤه هو نفسه لإنجاز مشاريع و تمويل نفقات في جماعة فاس التي يرأسها عن طريق الاقتراض، اذ مرر مقررا في دورة فبراير الماضي بعقد قرض بمبلغ 275 مليون درهم لتمويل الأتاوات المستحقة لشركة تدبير الإنارة العمومية بمدينة فاس.

فالى ماذا يرمي السيد الأزمي برده المتناقض على السيد أخنوش؟

لقد اتضح أن مبادرة السيد عزيز أخنوش حازت صدى لما تتميز به من جرأة و شجاعة، و لما تعكسه تصوراته لخطوات ما بعد أزمة كورونا.

و يبدو أن السيد الأزمي تفاجأ بسرعة السيد عزيز أخنوش و تفاعله العميق مع الوضع الجديد و تحليله للأزمة الحالية و تداعياتها، و تقديمه لمقترحات يمكن أن تكون خارطة طريق لمرحلة ما بعد الحجر الصحي.  فحاول السيد الأزمي يائسا  أن يقلل من أهمية مقترحات السيد عزيز أخنوش و التخفيف من آثارها الإيجابية في أوساط القراء. و حتى الآية الكريمة : “و الذين اذا أنفقوا لم يسرفوا و لم يقتروا و كان بين ذلك قواما” التي أنهى بها السيد الأزمي مقاله فهي مع الإنفاق أساسا دون شح أو تبذير – و هي جوهر فكرة السيد عزيز أخنوش.

و بعد هذا التقديم، تعالوا نبحث في ثنايا مقال السيد الأزمي و محاولاته البئيسة تبَنِّي مكتسبات و تمَلُّكَ  منجزات.

أولا: ان خيار السيد عزيز أخنوش – تعميق عجز الميزانية و الزيادة في المديونية – لا يهدف الى معارضة الجهود المبذولة (و التي بذلت) من أجل المحافظة على التوازنات الماكرو اقتصادية و لا النتائج المسجلة كما يدعي السيد الأزمي، لأننا لسنا في وقت محاسبة و لكننا في وقت قوضت فيه أزمة  كورونا و تداعياتها كل التوازنات و قلبت كل الحسابات مما يفرض مخططات ملائمة و جريئة، و هو ما يسعى اليه السيد عزيز أخنوش.  و لعل الحنين هو الذي يضغط على السيد الأزمي ليعود به الى الفترة التي قضاها كوزير منتدب لدى وزير الاقتصاد و المالية مكلف بالميزانية و الحسابات العمومية في حكومة بنكيران، فيتحدث عن هذه الفترة (2012 – 2016) و توازناتها المالية و يعترف أن عجز الميزانية وصل الى 7 في المائة في السنوات الأولى من حكومة بنكيران.

ويشير السيد الأزمي في مقاله الى  أن عملا جبارا تم القيام به ما بين 2012 و 2016 من أجل  “تطهير المالية العمومية و استعادة عافيتها” في حين أن انخفاض العجزين التوأم للميزانية و للحساب الجاري كان تحصيل حاصل  نتيجة انخفاض تكلفة المقاصة و سعر البترول خاصة ما بين منتصف  2014 و 2016 (من ما فوق 100 دولار للبرميل الى حوالي 50 دولار للبرميل) بل ان “تطهير المالية العمومية” كان في الحقيقة تخفيضا لميزانية الاستثمار العمومي ب 6.5 مليار درهم في 2013، و زيادة في المصاريف العادية ( دون احتساب مصاريف المقاصة) بنسبة 2 في المائة من الناتج الخام  سنتي 2012 و2013 بالمقارنة مع سنة 2011. و يتناسى السيد الأزمي أن تحسين العجز يعود فيه الفضل بشكل كبير للديبلوماسية الاقتصادية الحكيمة لجلالة الملك محمد السادس أيده الله التي بفضلها حصلت ميزانية الدولة على حزمة من مساعدات بعض دول مجلس التعاون الخليجي أذكر منها 5.3 مليار درهم سنة 2013 و 13 مليار درهم سنة 2014.

وليسمحلي، السيد الأزمي، المُعارض للزيادة في المديونية التي يدافع عنها السيد عزيز أخنوش ،  أن أذكره بأن تمويل عجز ميزان الأداءات و تحسن احتياطي المملكة من العملة الصعبة  قد أتيح،  أيضا، بفضل الاقتراض الخارجي، في الفترة التي كان هو فيها وزيرا منتدبا لدى وزير الاقتصاد و المالية مكلفا بالميزانية :  32 مليار درهم  في 2012 و 49 مليار درهم  في 2013 و 21 مليار درهم في 2014 – هذه السنة التي تولى فيها محمد بوسعيد وزارة الإقتصاد و المالية و عرفت انتعاشا كبير ا في تجميع فائض احتياطي  العملة الصعبة بما يزيد عن 20 مليار درهم بفضل ثقة المسثمرين العالميين:  29 مليار من الإستثمار المباشر (كما ذكر السيد الأزمي) و 25.5 مليار درهم من  الإستثمار في المحافظ بفضل دينامية القطاع الخاص و القطاع المالي المغربي و 11 مليار درهم نتيجة طرح ناجح  لسندات الأورو بوند في أسواق المال العالمية.

ثانيا: يتناقض السيد الأزمي مع نفسه، فبعد أن أقر في البداية بضرورة مساندة الدولة للفاعلين الاقتصاديين يعود في النقطة الثانية  لينعت خيار السيد عزيز أخنوش، القاضي بالتوسيع المؤقت لعجز الميزانية و الالتجاء الظرفي للزيادة  للمديونية،  بالمخاطرة بجاذبية المغرب و بتدفقات الاستثمارات الخارجية اليه.

و ليسمحلي السيد الأزمي أن أذكره، هنا أيضا،  ببعض أبجديات الاستثمار و خاصة العابر للقارات. إن قرار الاستثمار الذي ينتج عنه تدفق استثمار فعلي في السنة س يتخذ   قبل عام أو عامين أي في السنة س-1 أو السنة س-2  وقد يتخذ قبل ذلك بفترة أطول.

فقرارات الاستثمارات الخارجية المباشرة مثلا لسنة 2014 و التي ناهزت 30 مليار درهم ستكون قد اتخذت على الأرجح  في 2012 أي عندما كانت مؤشرات التوازنات الماكرو اقتصادية ضعيفة وهو ما يدل أن المستثمر الأجنبي المتطلع قد لا يهتم  – مرحليا-  بالتوازنات الماكرو اقتصادية بما فيها العجز، و قد ينظر أكثر الى الاستقرار السياسي، وسهولة المعاملات البنكية وتطور القطاع المصرفي  و  توقعات النمو الاقتصادي و نمو  الناتج المحلي  وتنبؤات الطلب الداخلي و المناخ الضريبي الذي  سيخضع له  في السنوات العشر اللاحقة لاستثماره.  و أفضل مثال يمكن أن أقدمه للسيد الأزمي بهذا الخصوص  هو الاستثمارات التي اجتذبها قطاع العقارات في السنوات 2014-2018 والتي تمثل بمفردها معدل  32٪ من إجمالي الاستثمارات المباشرة الخارجية خلال الفترة. الشيء الذي يدحض فكرة السيد الأزمي بأن استمرار تدفق الإستثمارات الأجنبية المباشرة رهين باحتواء عجز الميزانية و المديونية في أرقام معينة؛ و يزكي طرح السيد عزيز أخنوش بأن معايير نسبة  التحكم في المؤشرات الاقتصادية يجب تغييرها  مؤقتا نتيجة للأزمة الحالية.

ثالثا: يطلق السيد الأزمي أحكاما مسبقة على نقص  متانة الاقتصاد الوطني و قلة عمق النسيج الاقتصادي و يقلل من قدرة البنك المركزي – بنك المغرب على نهج سياسة نقدية مرنة كنظرائه الأوروبيين .  لقد شرع البنك المركزي في سياسته النقدية  المرنة فعلا بتخفيض سعر الفائدة الرئيسي بمقدار 25 نقطة أساس يوم 17 مارس الحالي  وإعادة تمويل البنوك من خلال قبول  اعادة شراء عدد كبير من  الأوراق المالية.  و أرى شخصيا، وقد يشاركني السيد عزيز أخنوش الرأي، أن البنك المركزي عليه – و بمقدوره – ضخ السيولة للإقتصاد الوطني وتسهيل الاستثمار العمومي  عن طريق شراء سندات دين الخزينة العام في السوق التي يمكن له اعادة بيعها حالما تتحسن الأوضاع الاقتصادية. و هنا أذكر السيد الأزمي بأن الإدخار المؤسساتي في صناديق التوظيف الجماعي، فقط، يفوق 450 مليار درهم و ستساهم لا محالة في  اخراج البنك المركزي من سياسة التيسير الكمي  وقت ما ارتأى ذلك،  و اذا قامت المؤسسة النقدية  بتبني هذه السياسة.   فلماذا يُبخس السيد الأزمي متانة القطاع المالي و المصرفي المغربي  بقيادة بنك المغرب و التي طالما أشادت المؤسسات المالية الدولية بقوته و الذي دعاه جلالة الملك للعب دور أكبر في تمويل الاقتصاد الوطني.

أخيرا،  بغض النظر عن حجم الدين العمومي، يبقى الأهم هو استدامته.  اذ يمكن أن يمثل مجموع الدين 100٪ من الناتج المحلي الإجمالي لكن يظل هذا الدين مستداما وقابلا للتجديد بالنسبة لبلد ينتج الثروة ويخلقها. في حين أن دينًا بنسبة 20٪ من الناتج المحلي الإجمالي لبلد آخر نسبة  نموه الاقتصادي ضعيفة  يمكن أن يتسبب في تخلفه عن السداد و افلاسه.  كما أن اتساع عجز الميزانية لا محيد عنه الآن  في ظل هذه الظروف.  السؤال الذي يجب علينا الإجابة عليه، اليوم،  هو كيفية احتوائه؟

  • عن طريق التضامن – حسب السيد الأزمي. التضامن…. يقتضي اما الزيادة في الضرائب على الدخل و المقاولات و هو خيار  غير وارد و قد يهدد السلم الاجتماعي؛ أو التكافل الوطني  الذي –على الرغم من تأثيره الإيجابي على اللحمة الوطنية قد يظل محدود التأثير خاصة اذا ما دام الحجر الصحي المرتبط بكوفيد 19 أكثر من ثلاثة أشهر.
  • عن طريق  تعزيز دور الاستثمار العمومي و  المحافظة على الطلب الداخلي و  الدفاع عن القدرة الشرائية للمواطنين و مساندة القطاعات الصناعية و التجارية و الخدماتية الوطنية  حسب السيد أخنوش.

ان خيار السيد عزيز أخنوش للخروج من الأزمة الاقتصادية المترتبة عن جائحة كورونا   صريح و  واضح و غير مرتبك و جريء يدعو الى  تعميق عجز الميزانية و الزيادة في المديونية من أجل مساندة القطاعات المتضررة و الوقوف بجانب المقاولة المغربية  حتى يتسنى لها التعافي وتحقيق انطلاقة جديدة للاقتصاد الوطني هدف خلق المزيد من الثروة و الشغل لأبناء المغاربة.

ان خيار السيد عزيز أخنوش  واقعي باركماتي  و رد السيد ادريس الأزمي الإدريسي حالم وشعبوي.

ان خيار السيد عزيز أخنوش  خيار متبصر من مغربي يمتح من عمق الأصالة المغربية و يستوحي من مرجعية  الواقع المغربي ومن فلسفة صاحب  الجلالة الملك محمد السادس ونظرته الإستباقية.

تعبر المقالات المنشورة في منتدى الديارعن رأي أصحابها، ولا تمثل بالضرورة وجهة نظر الجريدة