د.هشام المكي يكتب: فيروس كورونا والصحة الفردية.. هل استوعبنا الدرس فعلا؟

من النقاشات العديدة التي صاحبت انتشار فيروس كورونا، خصوصا أثناء الصدمة الأولى وشح المعلومات، تلك التي تناولت أهمية الصحة الفردية في تعرض الأفراد للإصابة بالفيروس من عدمه، وقوة الأعراض التي قد تظهر عليهم. إذ يختلف تأثير الوباء في الأفراد تبعا لحالتهم الصحية وقوة المناعة عندهم، لذا قد يفتك الفيروس بأشخاص مناعتهم ضعيفة، بينما ينهك أجساد آخرين ثم يغادرها، في حين يصاب آخرون بشكل طفيف دون أن تظهر عليهم أي أعراض للمرض، وكل هذا يرتبط بالحالة الصحية للفرد وكفاءة جهازه المناعي.

أمام هذه العبرة المرعبة، حيث يقامر كل فرد بتاريخه الصحي ليصنع مستقبل وجوده، يُتوقع أن الأفراد مستقبلا سيصبحون أكثر عناية بصحتهم وأكثر حرصا على العادات الغذائية والصحية السليمة؛ فهل من الممكن تحقيق ذلك فعلا بعد انحسار الوباء ؟

ترتبط صحة الأفراد بعوامل عدة تؤثر في صحتهم النفسية والجسدية، وتظافر تلك العوامل هو الذي يحدد الحالة الصحية للأفراد وقوة مناعتهم من الأمراض. فإلى أي درجة نستطيع التحكم في هذه العوامل؟ يمكننا أن نعبر عن تلك العوامل جميعها بمصطلح جودة الحياة، التي ينبغي أن تطبع التاريخ الصحي للأفراد، فوضعك الصحي الحالي هو نتيجة لمسار من الراحة النفسية أو القلق، ومسار من التغذية السلمية أو سوء التغذية، ومسار من عادات العيش التي قد تكون صحية أو لا تكون، ناهيك عن تاريخك المرضي وجودة وطبيعة العلاج الذي تلقيته. إذ ترتبط جودة الحياة في نظري بثلاثة أمور أساسية: تغذية صحية، ومحيط عيش سليم، وطمأنينة نفسية.

أما التغذية الصحية فهي تنتهك يوميا نتيجة لسببين على الأقل، يرتبط الأول بتغير نمط العيش وتوجه جميع بلدان العالم نحو التمدن والحياة الحضرية، مما يضاعف الأعباء المادية للعيش، ويضطر الزوجين للعمل معا لتغطية تكاليف الحياة، وهذا يجبر الأسرة على تكييف نمط غذائهم مع ظروف العمل مما يلجئهم إلى مطاعم الوجبات السريعة غير الصحية مهما طالت المقاومة.
أما السبب الثاني، فهو الأخطر، بحيث حتى لو حرصت على تناول طعام صحي معد في البيت، فإنك لن تجد فواكه وخضرا ولحوما صحية: إذ يتنامى استخدام الأسمدة والمواد الكيماوية حتى من قِبَل صغار الفلاحين، ويتم تخزين الخضروات والفواكه مُبردة لتروج في غير أوانها وأقل جودة من حالتها الطبيعية.

أما اللحوم، فهي نتيجة للأعلاف الاصطناعية بدل التغذية الطبيعية للماشية والدواجن.. ولعل الجميع قد لاحظ تغير مذاق الخضروات والفواكه الذي تراجع مقارنة بالسنوات السابقة، ولعل الذين نشؤوا في البوادي والمدن الصغرى أكثر قدرة من غيرهم على ملاحظة الفارق في جودة الطعام..

هكذا أصبح من النادر جدا الحصول على فواكه وخضروات ولحوم صحية وطبيعية، لذا حتى ولو حرصت على إعداد الطعام في البيت وفق الإرشادات الغذائية الصحية، فأنت مجبر على استخدام مزروعات مشبعة بالأسمدة والأدوية الكيماوية، ولحوم مواشٍ تغذت على أعلاف مصنعة. إن أكبر مساوئ نظام الحياة المعاصر، أنه يزيح جميع البدائل ويسلبنا حرية الاختيار والقدرة على المقاومة.

الجانب الثاني في جودة الحياة هو الراحة النفسية، وهي نتيجة مباشرة للإحساس بالأمان، وغياب القلق. لكننا نلاحظ أن نمط حياتنا المعاصر أصبح سريعا جدا، يمضي كل يوم مثل سابقه ما بين مسابقة زحمة المرور للوصول إلى العمل، ومتابعة دراسة الأبناء أو إيصالهم إلى مدارسهم، والاجتماع ليلا حيث الكل منهك، ينتظر سويعات من النوم ليستقبل يومه الجديد بنفس الطقوس.

أما نهاية الأسبوع، فهي أشبه باستراحة المحارب الذي يشحذ سيفه ليستأنف المعركة: استحمام وتنظيف واقتناء لأغراض البيت، وإن كنت محظوظا، فقد تظفر ببضع لحظات من الراحة والسعادة المؤقتة والمدفوعة الثمن، في مطعم يضم مساحة لعب للأطفال، حيث تدفع ثمن سعادة أبنائك للحظات قبل أن ترمي بهم إلى تيار اللهاث اليومي.

فأي راحة وطمأنينة في هذا النمط من الحياة؟ ألا تعتقدون أن تراكم أيام وسنين من القلق والسرعة والضغط لن يخلف أثرا على صحتكم النفسية والجسدية؟

غير أن السؤال الذي يغفل الجميع عن طرحه، هو: ما الذي يجبرنا على إمضاء أيامنا بهذه الطريقة؟ أليس هناك نمط آخر للعيش؟
في عصر الثورة الصناعية في أوروبا، ومع صعود الاقتصاد الرأسمالي، حرص أصحاب المصانع حينها على مضاعفة أرباحهم بشكل محموم، ولو باستغلال العمال الذين أجبروا على العمل 100 ساعة أسبوعيا.

وفي عام 1817، قاد روبرت أوين حملة قوية بالتنسيق مع نقابات العمال، للمطالبة بتحديد ساعات العمل في ثمانِ ساعات فقط، حيث اعتبر أن اليوم ينبغي أن يقسم إلى ثلاثة أجزاء متساوية: ثمان ساعات للعمل، وثمان ساعات للراحة، وثمان ساعات للترفيه. ولعل هذا المطلب لم يتحقق بالشكل المطلوب إلا مع هنري فورد عام 1926.

وفي الفترة الأخيرة، بدأت تبرز اجتهادات كثيرة لتقليص ساعات العمل، حيث يجري النقاش في السويد مثلا حول تقليص ساعات العمل إلى ست ساعات خصوصا وأن التجارب كانت واعدة، كما جربت جهات أخرى تقليص أيام العمل إلى أربعة.. وأثبتت التجارب أن تقليص ساعات العمل أو أيامه، يرفع إنتاجية العمل بحوالي الخُمس، لما للراحة والصحة النفسية من انعكاس إيجابي على الإنتاج.

تبرز المفارقة في نظري في كوننا أسرى لاجتهاد صيغ عام 1817؛ وهو وإن أفلح في إطلاق سلسلة من النقاشات والنضالات لإنقاذ العمال من استغلال بشع حينها، إلا أنه لا أحد يسائل الآن نمط العيش الحالي! الإنسان كائن ثقافي، يكتسب معناه من العمل، ومن الحياة الاجتماعية ومن الفن ومن عناصر أخرى كثيرة..

لكن أن تُستلب حياتنا في دوامة من العمل والترفيه المدفوع والمغذي للعمل، فتلك خديعة كبرى. خصوصا وأننا نعيش في قلق دائم، ونمط عيش أقل ما يوصف به، أنه يخالف نظامنا الطبيعي بل وحتى الثقافي، ماذا نخسر لو استيقظنا مبكرا بعد الفجر، مستجيبين لنداء الطبيعة، وعملنا إلى حدود الظهيرة؛ ثم تبقى فترة ما بعد الظهر حرة، للزيارات العائلية وصلة الرحم، وممارسة الرياضة، ومختلف الهوايات، والجلوس مع أبنائنا واللعب معهم وتوجيههم، ثم نظفر بساعات نوم مبكرة، تنسجم مع الساعة البيولوجية، ونغنم فيها إعادة التنظيم الهرموني لأجسامنا!؟… تخيلوا كيف سنكون أكثر راحة وطمأنينة، وكيف سنكون أكثر هدوءا وأبعد عن العصبية، وكيف ستكون علاقاتنا الاجتماعية أكثر تماسكا، وكيف سيكون الوضع النفسي والتربوي لأطفالنا! ناهيك عن تقليل العنف والازدحام في الشوارع، وتقليل التلوث عموما…

إن ما نعيشه من قلق، هو نتيجة نمط حياة مدمر لصحتنا النفسية والجسدية، أقحمنا فيه دون أن نشعر، وهو لا يخدم سوى القوى الاقتصادية الكبرى التي تتغذى على مجتمع الاستهلاك، وهي قوى لا تكترث لصحة الأفراد ولا إلى تماسك المجتمع ولا سلامة الكوكب، بل تهتم فقط بالحفاظ على الفرد الاستهلاكي، الذي يعيش ليعمل وينتج، وبعد نهاية الدوام، يخرج ليستهلك!

أما الجانب الثالث من جودة الحياة، فيرتبط بمحيط العيش، وهنا أستدعي نقاشا من النادر جدا أن يتم تداوله رسميا، ويرتبط بتأثير موجات الهاتف، وشبكات الوايفاي على أجسامنا.. إذ كنت أمتنع بشكل صارم عن ربط منزلي بشبكة الإنترنت حماية لصحة أسرتي، وقاومت كثيرا فتنة الصبيب المرتفع للإنترنت، إلى أن اكتشفت صدفة في نهاية العام الماضي، أن منزلي تغمره أربع شبكات وايفاي قوية للجيران.. حينها فقط استسلمت، لأن الضرر قائم فعلا دون أن أعي وجوده.

إن الحديث الصحي أو القانوني مغيب إجبارا عن هذا الموضوع، ولعل القارئ يعرف بلا شك ضغط اللوبيات الاقتصادية على مراكز الأبحاث، سواء من خلال تمويلها أو من خلال الضغوط المختلفة التي تمارسها عليها. لذا لا ينبغي أن نتوقع ترويج الدراسات العلمية التي تثبت الأضرار الصحية لتعرضنا الدائم واليومي لشبكات الهاتف والإنترنت على أجسامنا. حيث تمتلئ المدن بهوائيات شبكات الهاتف، وتسبح في محيط الأرض عشرات الأقمار تقدر بحوالي 4635 قمرا اصطناعيا (شبكة skynews العربية)، مع حركية لإطلاق عدد كبير من الأقمار الاصطناعية هذه السنة من أجل الإنترنت فائق السرعة حيث تتوقع شبكة (BBC) أن يصل مجموع الأقمار الاصطناعية التي تدور حول الأرض إلى حوالي 12000 (شبكة BBC)..

فهل تتخيلون أن كل هذه الأقمار الاصطناعية لن تؤثر على صحتنا؟ بل هناك أيضا تحذيرات قوية يطلقها العديد من الخبراء بشأن شبكات الجيل الخامس من الإنترنت، حتى أنه انطلق الآن جدل واسع بين الخبراء حول العالم بشأن علاقة شبكة الـ (5G) بفيروس كورونا..

أما قانونيا، وإن كنت غير متخصص، فدائما أفكر في أنه كما لا يحق لغريب أن يدخل بيتك دون إذنك، ألا يمكننا التفكير في حق الفرد في عدم تعريض جسمه لموجات الهاتف أو الوايفاي من محيطه؟! أعلم أن البعض قد يستسهل هذا السؤال، وذلك بسبب عدم ظهور التأثيرات بشكل واضح، مما يجعل الفكرة غير منافسة أمام حجم التسلية والترفيه الذي تتيحه هذه التقنيات.

لكنني متفائل بأن أن الأمر متاح تقنيا، لكن توجيه البحث العلمي نحو هذا الاتجاه ينبغي أن يكون بضغط من “المستهلكين” والمجتمع المدني وربما بكثير من التفاؤل، بضغط أيضا من السياسيين، وهو ما لا أتوقعه إطلاقا، لسبب واحد، هو أن أي نقاش يهدد مجتمع الاستهلاك المثالي يحجب تلقائيا منذ ظهوره، ولا فرصة له ليتطور أو يتم تداوله على نطاق واسع.

لذا أشار العديد من النقاد إلى أن فيلم (Fast Food Nation) هو من أقوى الأفلام السياسية في التاريخ الأمريكي، رغم أنه يناقش “فقط” صناعة الوجبات السريعة، ويتتبعها من مزارع الأبقار إلى “سندويتش الهمبورغر” بين يدي المستهلك!

إن الحالة الصحية للأفراد هي نتيجة لجودة الحياة التي تقوم على نمط تغذية صحي، ومحيط عيش صحي، وإيقاع عيش يخلو من القلق والضغط.. فهل نستطيع فعلا الاستفادة من درس كورونا وتغيير نمط حياتنا المعاصر، ليصير صحيا؟!

 

* المصدر: عالم ما بعد الجائحة: قراءة في تحولات الفرد والمجتمع والأمة والعلاقات الدولية

تعبر المقالات المنشورة في منتدى الديارعن رأي أصحابها، ولا تمثل بالضرورة وجهة نظر الجريدة